لا يمكنني أن أنسى بيت شعر كان يقتحم عيوننا ونحن صغار مجردون، لا حول ولا طول، في نقاء من السياسة وتصاريفها، والتاريخ وأقداره البائسة، كان يقول: «بلاد العُرب أوطاني.. وكل العُرب إخواني». صدقناه تماماً، فرأينا الخريطة من الخليج، إلى المحيط بقعة لا تزيد عن المكان الذي تحتله أقدامنا الصغيرة، وهي تدب على طمي الغيطان الريانة بماء النيل والفرات.
حين طالنا الوعي تفتت الخريطة، رمى ما أدركناه على أرضها المنبسطة السهلة الناعمة حواجز من صخور وأسلاك شائكة ورهانات متفرقة، وحناجر لا تردد النشيد نفسه. لجأنا إلى الكتب التي قالت لنا:«العربية لسان»، وفهمنا منها أن العربي هو من يتحدث لغة العرب، حتى لو كان من عرق آخر، أو دين غير الإسلام.
لكن المتعصبين رموا صخورهم في وجه هذا التصور، الذي كان آخر ما تبقى، فزادت الحواجز، هذه المرة بفعل تصور ديني مغلوط، أو أهواء متناثرة، أو ألاعيب خارجية تصور أصحابها أن العرب أقل من أن تكون لهم استراتيجية، أو على الأقل سياسة موحدة، فأعملوا فيهم كل ما لهم من قدرة، فصاروا في كل اتجاه، وكأن قدرهم أن يظلوا متفرقين.
تتابعت الدول العربية الخارجة من رحم الاستعمار، سواء هذه التي كانت قبله راسخة قديمة أو تلك التي نشأت معه، وصار لكل منها علم ونشيد وطني، واجتمعت الأعلام والرايات في ركاب جامعة الدول العربية ورحابها، وتعلقت بها الآمال، لكن الزمن مر وهي تترنح تحت ضربات من كل اتجاه، والأسلاك الشائكة تتضاعف، وفوق الرمال تقوم شم الجبال، فتتباعد الحناجر، لينطق كل منها بشيء مختلف، فحتى إن توحدت اللغة، تتعدد اللهجات، وهذا من طبيعة كل أمة، لكن أصواتها لا تتجمع، لتنهمر في مصب واحد.
مع الوقت لم يعد الصغار في المدارس يرددون النشيد نفسه، وتباعدت الأقدار إلا من شيئين الإسلام والمسيحية، والمتنبي ورفاقه وابن خلدون. تحت الرايتين توالى كل شيء: القرآن والإنجيل والتفاسير والتأويلات، وكل القصائد من امرؤ القيس، الذي لا نعرف إن كان شخصاً أم شبحاً، حتى عبد المنعم رمضان وقاسم حداد ومحمد الأشعري، مروراً بكل هؤلاء الذين رووا شجرة الشعر العربي وارفة الظلال، وكل الأفكار من ابن خلدون وحتى محمد عبده، ومن سار على دربه وتجازوه في التطوير والتنوير.
لكن هل بوسع النص الديني والشعر والفكر أن يرفع الصخور التي قامت، والرمال المتحركة التي امتدت دون تحذير من الاقتراب منها، والأفكار التي جاءت من هنا وهناك، لتقول إن خصاماً بين قيادات يأخذ من الوقت والجهد والفكر أكثر مما يأخذه نقاش، حتى لو كان جاداً، حول الخريطة التي يجب أن تلتئم، والنفوس التي من الضروري أن تصفو، وبعدها يجلس أهل السياسة ليتقفوا على وحدة القرار أو تناغمه.
لكن الذي ملأت الخريطة عينيه من جيلنا لا يقف طويلاً عند ما جرى، ولا يجعل الواقع الذي يزداد بؤساً يأخذه من الحلم الكبير الذي عاشه بأن الأرض من المحيط إلى الخليج واحدة، إلى هذا التفتت الكبير. فهو إن كان قد آمن بمرور الوقت أن لكل دولة حياتها، وإن ضاقت جغرافيتها أو كان تاريخها قريباً، فهو لم يعتقد أن الأمر في أي يوم يمكن أن ينتهي إلى هذا التحلل، ليفهم، دون أن يجهد نفسه في التفكير، أن هناك فرقاً كبيراً بين التعدد والتفتت.
لكن كل هذا يضيع في عيني من يمضي سائحاً بين بلاد العُرب، متحللاً أو متخففاً من كل الأناشيد والتصورات المصمتة، وحتى الأحلام والأوهام، تاركاً نفسه فقط للمناظر والمشاهد والطقوس واللغة والوجوه والصور والذاكرة والكتب القديمة، فوقتها سيعرف أن الحواجز التي قامت، صخراً كانت أو رملاً أو رغبات ومصالح، لا يمكنها أن تطمس النشيد القديم.