من هواياتي الشخصية الغوص تحت الماء، وقد طوّرت هذه الهواية في التسعينيات بدخولي في دورة للحصول على رخصة الغوص في المياه المفتوحة، وكان من أول دروس هذه الدورة لغة الإشارة الخاصة بالغواصين، بحكم أن الإنسان لا يستطيع الحديث تحت الماء إلا بها. هذا المدخل يلخص واقع المجتمعات من حيث حرية التعبير، وأستطيع تقسيم الدول وفق هذا المفهوم إلى 3 أصناف، دول يعيش أهلها تحت الماء ودول برمائية وأخرى فوق سطح الأرض. الصنف الأول، وهي الدول التي لا تحترم حرية التعبير، بل إن القوانين في تلك الدول والممارسات جعلت الناس في صمت مطبق خوفاً على حياتهم، لذلك طور الناس في هذه الدول لغة إشارة خاصة بهم للتعبير عن الآراء أو الانتقاد، الطرائف أو النكت من أنجحها، لأنها تلخص واقعاً معيناً لا يستطيع الإنسان التكلم عنه بصراحة مطلقة، وشعارهم قول الشاعر: في فمي ماء فكيف ينطق من في فيهِ ماء.
في مقابل هذا الصنف، هناك دول جعلت حرية التعبير، هي الأصل في العلاقات بين الناس أو في انتقاد واقع معين، أو في التعبير العام عن الرأي والرأي الآخر، هذه الدول يعيش أهلها على سطح الأرض، لذلك كان التعبير الشفهي أو المكتوب هو الأصل، والاستثناء هو الصمت. وبين هذين الصنفين هناك الدول البرمائية أو أهل الأعراف، وهم البشر الذين يعيشون بين المنزلتين، فحرية التعبير عندهم متاحة لأصناف معينة من الناس وليس للجميع، أو أن حرية التعبير متاحة لبعض القضايا وممنوع التعرض لقضايا أخرى، في كلا الحالتين يتلخص واقع هذه المجتمعات في أن حرية التعبير تضعك على حافة خطرة، إما أن ترقى بك إلى أعلى عليين أو تهبط بك إلى أسفل سافلين. من جمال حرية التعبير ادعاء كل الدول أنه حق مضمون فيها ومحصن أهله من تبعاته، بيد أن الواقع يقول لنا إن الحقيقة ليست كذلك.
خطورة الكبت تتلخص في الانفجار، الذي لا يستطيع الإنسان توقع نتائجه، وقد شهدنا ما يعرف بثورة الجياع في كثير من المجتمعات، كما أن في هذه المجتمعات حجراً للتفكير والإبداع. وفي المقابل خطورة عدم تنظيم حرية التعبير تتمحور حول الفوضى، التي قد تقود المجتمعات إلى تحزبات متعارضة متناحرة تهوي بالمجتمع إلى الدرك الأسفل من الحضارة، وبين هذين الخوفين تكمن الحكمة، وملخصها في وضع سياسات عامة يتفق عليها حكماء المجتمع لصيانة حق الإنسان في التعبير وحماية المجتمع من الفوضى، ومثل هذه الممارسات متوفرة اليوم على كوكب الأرض، بإمكان الدول الاستفادة من تجارب من سبق في هذا المجال، إنْ وجود النظام الذي يضبط حق الإنسان في التعبير مهم جداً، وبالذات في زمننا هذا الذي كثر فيه خلط الأوراق وسهلت فيه مهمة اتهام الدول بعدم احترام حرية التعبير، كما أن الانفتاح التكنولوجي جعل الناس يقارنون بعضهم ببعض ويدركون واقع حرية التعبير في دولهم، فحرية التفكير مرتبطة بحرية التعبير.
*أكاديمي إماراتي