الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

التفكير في الهواء الطلق

التفكير في الهواء الطلق
4 مارس 2021 00:38

عبد السلام بنعبد العالي

«لسنا من أولئك الذين يفكرون فقط في خضم الكتب التي تنتظر فكرتُها أن تُولد من محفّزات الصّفحات. عقلنا يعمل وسط الهواء الطلق، أثناء المشي، والقفز، والتسلق، والرقص. والأفضل أن يكون ذلك في الجبال المعزولة، أو على شاطئ البحر، حيث تغدو المسارات نفسها غارقة في التأمل».

نيتشه، «العلم المرِح»
«أنا لستُ بحاجة إلا إلى حذاء»! هولدرلين

هل ما زلنا نمشي؟ نطرح هذا السؤال، رغم غرابته؛ لأن الظاهر هو أننا لم نعد نمشي كما عهدنا أنفسنا من قبل، بل صرنا نشارك في نزهات وجولات سياحية تنظّمها مقاولات مختصة في تنظيم الرحلات في مناطق صعبة تقتضي منّا أن نجهّز أنفسنا ونتسلّح بمختلف أنواع الألبسة والأحذية الخاصة والعكازات المتطورة! 
وهذا «المشي» المنظّم لم يعد، بطبيعة الحال، في متناول الجميع. ربما لأنه لم يعد مشياً، بل غدا رياضة مع ما تتطلبه الرياضة التي اكتسحتها التقنية هي أيضاً من تجهيزات وتقنيات ومعرفة بالأوضاع، وما يترتّب عن ذلك من تدريبات ومباريات ومسابقات وإنجازات وترتيبات.
ولا علاقة لكل هذا بما عهدناه نزهاتِ مشي. لأن المشي، مبدئياً، لا يتوخى شيئاً، ولا يرمي إلى تحقيق إنجاز. إنه لا يهدف إلى الوصول إلى مكان بعينه. فالمشي في الغابة مثلاً لا يؤدي إلا إلى الغابة. المشي لا يستهدف إلا ذاته. فنحن لا نفعل أيّ شيء أثناء المشي عدا المشي. في المشي لا نودّ أن نسابق أحداً، ولا أن نحقّق إنجازاً. وحتى السّرعة لا تهمّنا. ما يعنينا هو تناسق الخطوات وإيقاعها، والتحام بالطبيعة وألوانها.
المشّاء حاضر على الدوام في جسده، مُنْصت إلى وقعه وإيقاعه. لا يطلب منه المشي غير جسده، غير ساقيه وقدميه. المشي لا يتوقف لا على إمكاناتك المادية، ولا على معرفتك، ولا على قراءاتك، ولا على من تصطحب، فحتى علائقك لن تنفعك في هذا المقام: أنت غير محتاج لا إلى تجهيزات ولا إلى تنظيم ولا إلى برامج ومخططات. ساقان كافيتان للمشي، وعينان محدقتان للرؤية، والذهاب وحيداً، والانصهار مع الطبيعة للإصغاء إلى صمتها وتسلّق جبالها، أو عبور غاباتها، أو السير بمحاذاة شواطئها وأنهارها. لسنا نكون بالنسبة للتّلال وأوراق الأشجار الكثيرة أحداً بعينه. لا نعود لا وظيفة، ولا وضعاً اجتماعياً، أو حتى شخصية، بل مجرد جسم يشعر بصلابة الأرض التي تطؤها قدماه، وبمداعبة العشب العالي وطراوة الهواء. عن طريق المشي، نشعر بالأرض تحت أقدامنا، وندرك انجذابنا نحوها. غير أن هذا الانجذاب ليس نفياً لكل حركة، وهي حركة ممتدة في دورة الطبيعة. 

تجربة حرية
يتحدث روسو عن المشي باعتباره تجربة حرية. يُشعرنا المشي بنوع من التحكّم في الزّمن، وضبط إيقاعه. الحرية عند المشي هي أن تكون لا-أحد، لأن الجسد الذي يمشي لا يملك تاريخاً، وإنما فحسب تيارَ حياةٍ لا ذاكرة له. عندما نمشي، لا يعود العالم ماضياً ولا مستقبلاً، فليس هناك سوى دورة الصباح والمساء، ليس هناك سوى الدورة الطبيعية.

وقت ضائع؟
إن تكلَّمنا بلغة الاقتصاد، لغة الخسارة والربح التي أصبحت اليوم مقترنة بكل أشكال الرّياضات، فإن المشي سيبدو لنا عديم الجدوى. فلا أرباح من ورائه. فمن منظور اقتصادي تقليدي، المشي وقت ضائع غير منتج للثروة. هذا بطبيعة الحال ليس شأن الرّحلات المنظّمة التي تجعل النّزهات صناعة تدرّ الأرباح على منظّميها. وعلى رغم ذلك، فلا يعني هذا أن المشي خلو من كل فائدة. فبالنسبة لمن يمشي «على الطبيعة»، إن صحّ التعبير، فالنفع هائل، لأنه خلال الوقت الطويل الذي يكون فيه واقفاً من تلقاء نفسه، دون أن يشغل باله بمتاعب متقلبة ومدوّخة، بعيداً عن الضجر من الهذر المتواصل للأشخاص الثرثارين، فإنه سيكون قد حافظ على توازنه واستجمع طاقاته طوال اليوم. عندما أستغرقُ فترة طويلة متناغماً مع صمت الطبيعة وحفيف أشجارها وتنوّع ألوانها، فإنها تجعلني أخلد إلى السكينة: تمنحني الطبيعة، دون حساب، وبسخاء كبير، كلّ ألوانها. وهذا من أجلي أنا وحدي. مقابل المشي: أتلقى الكثير من الوجود الصافي. المشي أقل ربحاً، لكنه أكثر فائدة.

نوع من الحشو
ليس المشي رياضة. المشّاء لا يسابق أحداً. غير أن بُطأه لا يعني بالضرورة أنه ضدّ العجلة. بطؤُه ليس ضد السّرعة. البطء عنده هو انتظام الخطوات. أهمّ ما في المشي هو الإيقاع. المشّاء الجيّد هو من يضبط بسرعة إيقاع سيره. المشّاء السّيئ يسير بسرعة، ثم يرفع من سرعته، ثم يبطئ من غير أن يضبط الإيقاع. وهذا المشي من غير إيقاع هو نوع من الحشو. كل لحظة تتمزق لفرط تجزيئها، وحشوها حد التصدّع، لأن المشّاء يكدّس حينها، وفي وقت محدود، أكثر ما يمكن من الاهتمامات والانشغالات. ونتيجة ذلك أن حركاته لابدّ أن يطبعها شيء من التشنّج، ولابد لساقيه أن ترسما خطوطاً منكسرة. ستقوم حركاته على التّسارع المفاجئ، وسرعان ما يصبح نفَسُه ثقيلاً يدفع الجسم دفعاً إلى الانجرار، فيغدو التعجّل عائقاً ضد الحركة. ليس بطء المشاء نقيض السّرعة، وإنما هو نقيض الحشو، حشو الزمن بما لا يطاق.

أعباء الرفقة
ولا شك في أن المشي ضمن رحلة منظّمة يرغم صاحبه على الرفقة التي من شأنها أن تعرّض خطواته أثناء المشي للاصطدام، والمنع، والتعثّر. لأنه يكون مرغماً أن يساير الجماعة، وأن يحاول ضبط إيقاعات سيرها المتنوعة، الأمر الذي يحول بينه وبين أن يعثر على إيقاع خاص كي يحافظ عليه. وكلما قلّ عدد المرافقين، سهل العثور على إيقاع موحَّد، مما يجعل المشاء يضبط حركاته ويتحكّم في تنفسه. هذا فضلاً على أنّ الرفقة تجرّ إلى الحوار وتبادل الحديث. كان الفيلسوف كانط يفضل أن يقوم بنزهته اليومية بمفرده اعتقاداً منه أن الكلام و«فتح الفم» مضرّ بالجسد أثناء المشي.

استراحة.. وعلاج
وغالباً ما ينظر أولئك الذين يقرنون المشي بالرياضة إلى المشي على أنه تتويج ليوم عمل، وأنه لحظة استرخاء تعقب يوماً مشحوناً بالتوتر والتشنّج. وبهذا المعنى فهم يعتبرون المشي نوعاً من الاستراحة. بل إن بعض الرّهبان كانوا يعتبرونه نوعاً من العلاج. ولكن، سواء اعتبرناه كذلك أم سلمنا بأنه لحظة استراحة واسترخاء، فإنه يفترض أنه يتوّج يوم عمل وفترة إنهاك. وكان مونتيني يرى أن المشي، على العكس من ذلك، محفّز على العمل، محرّض على التفكير، يقول: «ترقد أفكاري إذا أقعدتها، ولا يعمل ذهني ما لم تحركه الساقان». بل إن نيتشه يذهب أبعد من ذلك. فالمشي ليس عنده استراحة تعقب العمل، ولا استرخاء يأتي بعد العناء، وإنما هو شرط العمل، وعنصره المكوّن. لم يكن نيتشه يمشي بعد أن يعمل، وإنما كان يعمل ماشياً.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©