تختلف أدبيات العلوم السياسية حول تعريف «الدولة» بأنها «مجموعة من الناس يخضعون لسلطة سياسية معينة ويعيشون بصوة دائمة في إقليم جغرافي محدد»، أو أنها «مجموعة من المؤسسات الحكوميّة تقوم بوضع القوانين وتتوكل في عملية الضبط والتوجيه والتنظيم»، لكن هذه الأدبيات تتفق في النهاية على أن الدولة تحتاج إلى عاملين أساسيين لاستكمال وجودها الفعلي وهما: الاعتراف الدولي والسيادة على أراضيها. ولا يرى علماء السياسة أن حجم مساحة الدولة أو عدد سكانها، بالزيادة أو النقصان، يشكلان عائقاً في أن تصبح الدولة مجموعة من الناس أو مجموعة من المؤسسات لتحصل على السيادة والاعتراف الدولي.
درجة الاعتراف الدولي وسيادة الدولة يمنحانها قوة إضافية تجعلها قادرة على تمتين شبكة من العلاقات الدولية التي تساعدها على النهوض والتنمية الثقافية والسياسية والاقتصادية والعسكرية وغيرها، سواء بحكم موقعها الجغرافي وتنوع سكانها وما يمكنها توفيره من موارد طبيعية، أو بحجم قدرتها الدبلوماسية على بلوغ مناطق العمق الحيوي مع القوى الدولية الكبرى وباقي دول العالم، حسب المصالح العليا للدولة، والذي يساهم في إرساء منظومة من الصداقات والشراكات والتحالفات اللازمة التي تحمي تلك المصالح، ليست الحماية العسكرية بالمفهوم التقليدي، إنما الحماية من كون الدولة تتربع في مكانها الجغرافي والسياسي بسيادتها المطلقة التي تدفع بعجلة النمو إلى أعلى درجاتها.
الظروف الدولية التي أعقبت الحربين العالمية الأولى والثانية وما تمخضت عنه من تحالفات وتوازنات وتكتلات ومحاور بين القوى الدولية، وكذلك المناخ والظروف السياسية والاقتصادية والعسكرية العالمية التي ساهمت بإعادة رسم مفهوم الدولة وتشكيل المشهد السياسي العالمي الواقعي، وكذلك إعادة رسم المشهد الجغرافي، كمعاهدة معاهدة لوزان الثانية التي أدت لتقليص جغرافيا الدولة التركية وألزمتها بالتنازل عن مساحات كبيرة من أراضيها، وكذلك وبعد توقيع ميثاق الأمم المتحدة في سان فرانسيسكو في 26 حزيران 1945، بات واضحاً مفهوم الدولة والنظام السياسي والسيادة وغيرها من المصطلحات السياسية، وأصبح مؤكداً أن «قوة الدولة» تستند على مدى قوتها الداخلية في الأمن والاستقرار والتنمية، وعلى قوتها الخارجية في مدى متانة علاقاتها الدولية وحجم تحالفاتها الإستراتيجية ومشاركتها الفعالة في المحافل الدولية.
بالعودة إلى القوة نفسها، فإن «نيكولا ميكافيللي» يرى أن القوة هي الغاية النهائية التي يجب أن تعمل الدولة للوصول إليها في مجالات العلاقات الدولية مهما كانت الوسيلة. ويقول «فريدريك راتزل»: إن الدولة هي كائن حي يحتاج للنمو والتطور حتى لو كان ذلك من خلال القوة، لكن «جوليان لايدر»، وفي كتابه «حول طبيعة الحرب» وجد أن السياسة ترتبط بشكل وثيق مع القوة حسب اتجاه التأثير في الغير وحملهم على التصرف بطريقة تشكل إضافة إلى مصالح مالك القوة، أو اتجاه المشاركة الفعالة مع المجتمع الدولي لصنع قرارات مهمة، أو الجمع بين الاتجاهين، الذي يقول: إن القوة هي «السيطرة والتحكم المباشر أو غير المباشر لشخص معين أو مجموعة معينة أو دولة ما على أوجه إثارة القضايا السياسية العامّة، أو على عملية توزيع القيم».
من المهم ألا ننسى أنه وخلال الحرب الباردة ظهرت مصطلحات مثل التوازن والتعايش السلمي والاحتواء والتوازن لمحاولة ترسيخ العلاقات الدولية، وفي تلك الشبكة المعقدة عالمياً، وبظهور الجماعات والدول الإرهابية قد ظهرت حقيقة قوة بعض الدول الفعلية وتراجع قوة دول أخرى، ليس من نواحٍ عسكرية أو اقتصادية، بل في ضعف تلك الدول على التناغم مع المجتمع الدولي وضعف قدرتها على التطور والنمو.
خلال القرن الحادي والعشرين، تقدمت الإمارات بقوتها الداخلية والخارجية وأصبحت نموذجاً عالمياً في مجالات التنافسية العالمية والنمو السياسي والاقتصادي والثقافي، وكذلك تقدمت بقوة دبلوماسيتها وسعيها الحثيث للتعايش السلمي والتركيز على قيم التآخي والسلام ومكافحة الإرهاب والتطرف، وتراجعت دول مثل تركيا وإيران بسبب ضعف قوتها الداخلية وانقساماتها العرقية والأيدولوجية وسوء إدارة السلطة الحاكمة للموارد الطبيعية والبشرية، وكذلك بسبب ضعف قوتها الخارجية وتآكل شبكة علاقاتها الدولية ووقوع كل منهما في فخ «مزاجية السلطة»، التي لا تأبه للمصالح العليا الوطنية بقدر اهتمامها بالمصالح الشخصية والنفعية للقائمين على السلطة في هاتين الدولتين.
لا يمكن وصف التدخل الإيراني في شؤون عربية، كما يحدث في لبنان واليمن وسوريا والعراق، بأنه دلالة على قوة الدولة، وكذلك الأمر بالنسبة لتركيا وتدخلها في سوريا وليبيا والعراق، فهذه التدخلات التي أدت إلى تهاوي شبكة العلاقات الدولية وخاصة مع الدول المجاورة، ستكون خسارتها أعظم بكثير من الفوائد التي يمكن أن تجنيها تركيا وإيران من تدخلاتها المرفوضة من قبل المجتمع الدولي.