تتحور اللهجة العامية وتتحول وتتغير لأسباب عديدة، منها أنها «لغة» العامة، لذا فهي تدخل في مفرداتهم الشخصية وخلفياتهم الثقافية ومفرداتهم اللفظية، فتكون مزيجاً متداخلاً لا يعرفه إلا أبناء ذلك الفريج أو المجتمع في بعض الأحيان.
ولفت انتباهي ما قالته خالتي سلامة وهي تسرد عليّ سالفة حفيدها الذي أسقته «الحلول» للمرة الأولى في حياته يوم الأربعاء الماضي، وتقول إنه قام بشم كأس الحلول، وقال لها:«هذا مب حلو»؛ فقالت له: «عِـيَلْ الغثايث اللي تأكلها ومسويتلك بهاق في ويهك حلوة!» فرد عليها وهو ينظر إلى الباب الخارجي وقال:«أنا باسير البيت» فقالت له: «أنا بوديك بيتكم عقب ما تشرب هذا الكأس». رفض الصبي طلبها وعندها دخل في الممارسات التراثية التي مررنا بها جميعاً فبعد كلمتين طيبتين، وقف أمامها واحتسى الحلول، ثم أكل قرص الخمير الذي أذابته بالدهن «الخنين» وعسل رأس الخيمة.
وأكملت سردها للقصة قائلة: «هيهنعم، أنا ما عندي كاني ماني!» وتقصد هذه الحيل لا تنطلي عليّ! وبعد السوالف وكثير من الضحك وعدتها بالحديث معها لاحقاً، وأغلقت الهاتف وفي رأسي تدور عبارة «كاني ماني»!
وبحثت عن ذلك، فإذا بمعلم الأجيال الراحل شريف العلمي، رحمه الله، يقول إنها عبارة اعتذار عندما لا يستطيع المرء فعل شيء، ويضيف أن «الكاني» هو السمن و«الماني» هو العسل في اللغة المصرية القديمة، وكان الفقراء يقصدون الكهنة ويطلبون منهم ذلك فيعطوهم إياه وإن تعذر وجود السمن والعسل، كان الكهنة يعتذرون للفقراء فيقولون لهم:«ليس عندنا كاني ولا ماني» وهي وسيلتهم للاعتذار.
فقلت في خاطري يا لهذا العالم! كيف سافرت ألفاظ مصر الفرعونية إلى الخليج العربي وعندها اكتشفت أن هناك كماً لا يستهان به من تلك الألفاظ التي نستخدمها ولها جذور راسخة في قلب مصر وقد ترددت بين ممرات أهراماتها ومعابدها، ومنها كلمات نستخدمها للتواصل الفعال مع الأطفال، منها «امبو» التي لها جذور في اللغة القبطية وتعني اشرب، وكذلك كلمة (مم أو نم) وتعني كُل، و(نونو) وتعني الطفل الرضيع، و(بَح) أي انتهى.
للعارفين أقول، عندما قال أهلنا الأولون «الرغيب عطوه مصر ما سدته» كانوا على حق، فها نحن لا نزال ننهل من مصر الفرعونية معارف، وأنا على يقين من أن الصبي الذي شرب «الحلول» وأكل بعده السمن والعسل لم يكن يعرف أنه حصل على «كاني ماني» كمكافأة لما قام به من حفظ الموروث والمعتقدات الشعبية في آنٍ واحد وللحديث صلة.