ما كان اللبنانيون إلى أيامٍ قريبةٍ يفكرون إلا في تشكيل حكومة تحيي لديهم أملاً في الإنقاذ. ثم جاءت مشكلة اللقاحات ضد فيروس كورنا، والتي تأخرت كثيراً، لكن ما أن وصلت الدفعتان الأوليان، وقد تسجَّل مئات الآلاف على «المنصة» لتلقّي اللقاح، حتى اختفى خلال أقل من أسبوع نصف تلك اللقاحات، دون أن يقول وزير الصحة مَنْ أخذها أو سرقها، ومَنْ أفاد منها! الثقة منعدمةٌ أصلا في السلطات، كل السلطات، وقد ازدادت بتفاصيل اللقاحات انعداماً!
حكومة الإنقاذ إذا تشكّلت تقع على عاقتها مهماتٌ شبه مستحيلة: إيقاف الانهيار الاقتصادي والمالي وإعادة الإعمار بعد انفجار المرفأ وخراب ثلث مدينة بيروت! بيد أنّ التشكيل نفسه صار عُقدة العُقَد. فالرئيس المكلَّف بالتشكيل من مجلس النواب يقول إنه ملتزمٌ بإقامة «حكومة مهمة» على قواعد المبادرة الفرنسية التي تعني: حكومة وزراء اختصاصيين غير حزبيين، أي أنها ليست حكومةً سياسية مشكَّلةً من الأحزاب الممثَّلة في البرلمان. 
أما رئيس الجمهورية فيرى أن التشكيلة التي عرضها عليه سعد الحريري لا تُراعي المعايير التي ينبغي أن تكونَ واحدة. فالدستور ينص على أنّ رئيس الجمهورية «يتفق» مع رئيس الحكومة المكلَّف على التشكيل، ويصدر المراسيم التي تجعل من الحكومة رسميةً وجاهزةً للذهاب إلى البرلمان لطلب الثقة. والرئيس ما «اتفق» مع الحريري للاختلال في المعايير كما قال. ثم فهم الإعلاميون أنّ الرئيس يريد أن يسمّي الوزراء المسيحيين، الذين يبلغ عددهم الثلث المعطِّل، أي أن يكون الرئيس قادراً على إسقاط الحكومة إذا سحب وزراءه! 
في الشهور الخمسة الأخيرة منذ تكليف سعد الحريري، جرت كل المحاولات المحلية والعربية والدولية لتدوير الزوايا -كما يقال- بحيث لا يموت الذئب ولا تفنى الغنم. قيل لعون إنه لا بد أن يتخلّى عن مطلب الثلث الضامن أو المعطِّل. وقيل لسعد الحريري: اقبل حصةً للرئيس أو تسميات لا تصل إلى الثلث المعطِّل ولو زاد عدد وزراء الحكومة عن الـ18، كما كان الحريري مصراً! 
المهم أنه وفي الوقت الذي كان فيه الطرفان يتجادلان حول جنس الملائكة، كان الانهيار يزداد على كل المستويات: وصل سعر الدولار إلى حوالى العشرة آلاف ليرة، بعد أن كان سعره قبل الأزمة في سوق الصرف 1500 ليرة، وحصل جنون في أسعار السلع الغذائية وندرت الأدوية، وغصت المستشفيات بمرضى كورونا رغم استمرار الإقفال العام، وارتفع سعر البنزين والغاز المدعوم من البنك المركزي، واستمر تهريبهما إلى الخارج. وهذا كله فضلاً عن أنّ أموال المودعين في البنوك محجوزة، ويعانون حتى في قبض مرتباتهم الشهرية المحوَّلة إلى المصارف. والجامعات الخاصة، وهي عماد التعليم في لبنان، سقطت تحت وطأة العجز القاتل، شأنها شأن المستشفيات أيضاً. 
وتمثَّلت آخر التطورات في خطابات البطريرك الماروني الذي تعالت لهجته الاحتجاجية أسبوعاً إثر آخر: من الدعوة إلى تحرير الشرعية، إلى الدعوة لحياد لبنان، وأخيراً الدعوة لالتماس حلول لأزمة الدولة الفاشلة لدى المجتمع الدولي. وبين هذا وذاك فإنّ البطريرك يصرخ: نريد حكومة على الأقل، ويكاد يقول: أي حكومة! 
نعم، ما عاد هناك اصطبار لدى الناس العالقين بين الحكومة الغائبة والدولار الهائج، وكورونا المتصاعد، وقد قال وليم شكسبير: إنّ المصائب لا تأتي فُرادى!

*أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية