جبل جيس، حلم ذات ليلة شتوية، ترتع فيها القلوب وتغني للحياة، هو ذاك الجبل يبدو كحارس أسطوري يسابق الزمن في خيلاء، وينتهي عند الدرجات العلا، صاخباً بجلموده، متسامياً ببوح الهدهد الشامخ بتاج الرفعة، وصولجان الجمال، هنا في هذه السلالم المتدحرجة حتى شغاف الغيمة، يتألق وجه الجبال، كأنها سفن عملاقة تخوض غمار الزمن ليتم التواصل ما بين الماضي والمستقبل، بطاقة الحاضر، والذين يسومون الإرادة من أجل محفل إنساني، حضاري، تاريخي، يسمق لكي تستمر الحياة مضاءة بالفرح، ولكي تبقى رمال الأرض غافية تحت ملاءة الحجر الأغر.
عندما تتجه نحو هذا الصارم، تشعر أن منازل قلبك محروسة بمهند لا يذوب معدنه ولا يبلى، لأنه من صنع مشاعر الطبيعة، ولأنه يتماهى وأفئدة الذين حضوا النفوس، وحرضوا الرؤوس، ملبين نداء الحلم الزاهي، نابتين من فوق التراب كأنهم الوعد، وكأنهم الرعد الذي من خلاله تنبت قطرات العذوبة.
جبل جيس في موئله عند خاصرة المكان المجلل بالتاريخ، يبدو كعابد متهجد، ينهل من أحلام الناس آيات شغفه، ويسرد لليل حكاية البدء، وصورة من صورة الخلود.
جبل جيس كخيل مسومة تروم السحاب، وسيف مظفر، مقبل لا مدبر، ينوي الانسكاب، وهو الغيمة، هو النجمة هو باب من خلفه ألف باب، هو لؤلؤءات الدهر في حنايا العاشقين يبقى خير رباب، عازف الوتر المخضب بالحنايا وأسباب عتاب، هو هذا المعنى، جبل الشهد، وعيون الماء، وجداوله، هو هذا العريق يشدو لزائره، شدو الحمام على قمة، ونعمة تذرو ذراها من مهجة، نابضة بالهوى، ومن رقعة في السويداء ترتعش وجداً وجوداً، وتجويداً، هو هذا الملفع هيبة، وأسراراً، هو هذا الشفوع، المنوع، هو هذا الصدر الأعظم، في شيمته نخوة الارتفاع، وفي قيمته نشوة الهوى والهواء، هو هذا الجبل قاب قوسين من القلب، ومن الدرب، وعند رئة المكان يبدو المرهف، المدنف، الكلف الحنون، وبين كفيه تهجع أفئدة وتنام سفوح، وتستريح أنعام وتهدأ طيور، هو هذا جيس، هو هذا الطور المتناسل من رحم التاريخ، يجلي زمانه بمهماز وعي الناس، وادراكهم في أن للجبال رونق الأبهة، ولصخرتها الصلدة معنى الصمود، وخلود الحياة.
جبل جيس في الذاكرة مكان، وفي الحلم، ليلة مضاءة بمصابيح الحب، وفي الحياة، راحلة سفر بعيد لا مرسى لها سوى صورة في الوجدان، ومثال في الوجود.