الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

د. عبد الله الغذامي يكتب: هل للفلسفة مكان في القرن الحادي والعشرين؟

د. عبد الله الغذامي يكتب: هل للفلسفة مكان في القرن الحادي والعشرين؟
27 فبراير 2021 00:17

تمر الفلسفة اليوم بمأزق مفاهيمي مربكٍ، وأحياناً متطرفٍ، ومنذ أن استقلت العلوم الطبيعية عن الفلسفة استقلالاً يشبه حالة التحرر من مستعمر والفلسفة تعاني مزاحمة النظريات العلمية لها لدرجة أن وصل الأمر بإعلان موت الفلسفة حسب ستيفن هوكينج، ومثل ذلك كان موقف أهم الحقول المعرفية الإنسانية، وهو حقل علم اللغة «الألسنيات» ودعواها بتحويل المقولة القديمة بأن الفلسفة أم العلوم لتأتي مقولة «اللغة أم العلوم» بمعنى أن البحث الألسني أصبح هو الأقوى في صناعة المفاهيم، وتكون الفلسفة فرعاً من فروع شجرته، وهنا تتنازع الفلسفة السهام، وكما قال المتنبي «وسوى الروم خلف ظهرك روم».
ولنعطي تصوراً عن الحدث نستعيد قصة جاك ديريدا
عام 1992 حين فكرت جامعة كيمبريدج بمنحه الدكتوراه الفخرية في الفلسفة، فحدثت ضجة في الجامعة بين معارضين ومؤيدين للفكرة، والاعتراض كان من أعضاء في قسم الفلسفة زعموا أن ديريدا عالم لغوي وليس فيلسوفاً، واقترحوا منحها له بوصفه ألسنياً، وهذا ما جعل إدارة الجامعة تطرح المسألة للتصويت، وتم التصويت بفارق صوت واحد فقط لصالح منحه الدكتوراه الفخرية في الفلسفة، وهذا مؤشر على حالة الاستقطاب، وحالة الانشطار المفاهيمي الذي يؤثر على معنى الفلسفة اليوم وأين تقف الأمور حول هذا الإشكال المتجدد، ويقابل ذلك ما أشار إليه أحد أساتذة الفلسفة في جامعة أكسفورد الذي واجهته أسئلة شكوكية من طلابه متسائلين عن جدوى تدريس الفلسفات القديمة، فلم يك له من رد سوى أن قال إننا نقرأ الفلاسفة القدامى لكي نتجنب أخطاءهم.
وواضح أن رد البروفيسور رد ضعيف ولا يقوم مقام المرافعة القوية تجاه التساؤلات، كما أن تساؤلات الجيل الشاب من طلبة الفلسفة ستظل تشاغب وعيهم ليتولد عن هذا الشغب مقولات متمردة، كما هي سيرة الفكر المعرفي حين تشتغل عليه ومعه الأسئلة المشاغبة، وتبعاً للحال نفسها قال الفيلسوف الكندي جون ليزلي أتمنى لو كنت روائياً وليس فيلسوفاً، وهو هنا يشير إلى أن الفلسفة تقف حائرة دون الوصول للأجوبة العميقة عن الوجود، وهذا يتداخل مع مقولة ريتشارد رورتي في أواخر عمره بأن العالم لن ينقذه من شروره إلا الشعر، وأن العالم يقع في الشرور والانتهاكات غير الإنسانية، لأنه فقد حسه الشعري وهذا يجلب لنا مقولة غازي القصيبي الشكوكية بتساؤله قبل عقود «هل للشعر مكان في القرن العشرين»، وهي تناقض فمرة رورتي وبجانب ذلك جاءت تصورات أن الرواية هي ديوان العصر، وقياساً عليه، فإننا أمام تساؤل مماثل، وهو هل للفلسفة مكان في القرن الحادي والعشرين، وجوابي الشخصي هو: نعم، ولكن مع استثناء كبير وعميق، على أن الفكاك من الفلسفة لن يتم إلا عبر الفلسفة نفسها تماماً، كما قال رولان بارت بأن لا خلاص من المعنى إلا بالمعنى، وهذا ما يجعل قول هوكينج بموت الفلسفة هو ذاته قولاً فلسفياً ينعكس ضد مراده، وذلك بما أن المقولة نفسها مبنية على محاجة مجازية تأويلية، ولهذا فموتها لن يكون حقيقياً بمعنى الفناء، ولكنه فحسب تبديل جذري لوظيفة الفكر من وضعية تقليدية لوضعية غير تقليدية، وهذا ما يعطي مخرجاً لسؤال طلاب الفلسفة في أكسفورد، حيث تتبدل الوظائف المعرفية وإن احتلت العلوم واجهة بعض الأسئلة، فإن أسئلة أخرى ستجد العلوم نفسها عاجزة عن تصور إجابات لها، وستحتاج للفلسفة لتسهم في التعامل مع تلك الأسئلة، والعلم يعطي أجوبة عن وظيفة الظواهر الكونية والبيولوجية وطرق عملها، ولكنه يعجز عن كشف معنى الوجود وغايته ولا معنى لما قبل وما بعد الموت.
على أن ما جرى حول ديريدا، وهل هو فيلسوف أم ألسني يكشف حال التحول الجذري والصعب في معنى وظيفة الفلسفة، وفي مفاهيم ما هو فلسفي وعصري في ندية مع التقاليد العريقة، وفي تجاوز حتمي لها، وسأعطي مثالاً لذلك في التوريقة القادمة.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©