دعوتكَ أن تأتي، فصرتُ أراك تنأى.. متكئاً على كتفِ ظلك، وحاملاً على رأسك جرّة فخّارٍ مشروخة فيها ذكرياتك الهرمة. هل أنتَ أنت قبل ثلاثين سنة، أيها الصبيُّ القافز على الأسوار والضاحك من تفرجنا على ارتفاعها؟ وهل أنتَ أنت قبل خمسين عاماً، أيها الطفل الذي شقّ كفن القِماط وبصقَ على النار وفي يده حمل الجمرة التي اسمها الكلمة وقال للصبر: لن أتبعك؟ وهل تذكر حين حملت سوطاً ورحت تجلد التماثيل على ظهورها لأنهم كما تقول: عبيد اللحظة الخالدة؟ وهل تتذكر حين مددت يدك إلى القمر ووضعته في جيبك فصار مجرد درهمٍ فضيّ لا يصلح حتى لشراء علبة كبريت؟
ماذا جرى.. كيف تغيّرت صورة الليل من كونه قبعة سوداء إلى رسالة صامتة؟ ولماذا خرجت من ثيابك كلها وانتميت إلى عراء الفكرة، وأنت تُدرك أنها لا محالة تتغير، وقد يصيرُ نقيضُها أصلها. وقد يأمر رجلٌ بلا لسانٍ بتعديل الكلام فيصير مأوى صراخك الكتمان؟ احمل المقصّ إذن وتعال معي نُفكك الشروط، لا أبيض، ولا أسود، ولا حلول وسط. 
لا فعل سوى هتك الحدود في العقل الجبان، ولا مشي إلا لإشعال فتيل البراعم الخائفة وجرّها حباً إلى حرائق الدهشة ورغبة الانفلات إلى البعيد. وحين تتبعني ظلاً، سأتبعك شمساً. وحين تسقيني من جرعة المعرفة، أنصّبكَ  قمراً في ذكريات الدهر وسيداً على كلماته كلها. 
أيها الفيلسوف الذي يتربى على الضوء في آخر النفق، أيها الكتاب الذي تطايرت أوراقه في الرؤى المستحيلة حتى رآها الحائرون نجوماً تسطع في ليلهم الطويل وتضيء وحشة قلوبهم. انتظرني عند ناصية الكلام، عند الصخرة التي ظلت قروناً تسد مجرى الحرية وتمنع تدفق مائها في عروق الجالسين داخل دائرة الصبر، والصبر شقيق النار أحياناً، وأحياناً وقودها. حباً في الحقيقة ليس إلا سيكون سعيك، وأنت تعلم أن الناس يصدقون الخرافة أكثر من العلم. وأن الحرب في الأصل لعبة يمارسها الموتُ كلما شعر بالضجر، وأن الفيلسوف هو من كُتب عليه أن يسكب الماء على اشتعالها. وأقصد هنا ماء الكلمة المكتوبة بدم القلب، الكلمة التي إذا انطفأت في الحلوق، صار الوجود عدماً وتفتت شكله ومعناه. فتعال إذن لننحتها أولاً في صوت من يولدون على قارعة الأمل، وثانياً في صمت من ينتظرون صبحاً تأخر وقد لا يجيء أبداً. وأقصد هنا كلمة (الحب) التي يختبئ فيها سر الخليقة، وأصل كل الأشياء، وفصلها.