بصمت الكهان ومعتنقي السكينة، تدخل معيريض معبد التجلي وتنبش عن ذاكرة خفية اختبأت في معطف الزمن، ورغم الغياب، وذهاب المنازل الأولية إلى حيث تمكث الأحلام الجديدة، هنا تجد النخلة وهي تمد أصابع سعفاتها إلى السماء كي تلمس خدود الغيمة، وكي ترشف من رضابها قطرات الأبدية.
وهناك في الجهة الموازية للقلب، عند نافلة الصدر تبدو الجبال كطيور عملاقة تحدق في الماوراء، وترسل وميض الكتل الرمادية إلى ذاك الذي يسدد خطوات امرأة بدوية لا زالت ترعى الغنم، واثبة على أسنان المشط بروح كأنها الأجنحة الشفيفة. وأنت عند رصيف الذاكرة تنظر في مرآة الزمن، وتتأمل الصورة المثلى لغائبين عن المشهد، وتقرأ في دفتر العمر ملامح بشر بالأمس كانوا هنا واليوم قد رحلوا، ولكن الصورة تبدو واضحة، وصريحة في صميم القلب، تبدو الوجوه كأنها المرايا التي علقت وجنات، توردت يوماً قبل أن تختفي تحت ظلال الموجة العارمة، وخلف خدر غليظة كأنها الملاءات القطنية العتيقة.
معيريض طفلة ربيعية ناهلة من رائحة الرمل عبق التألق، متسربة في وجدان عشاقها كأنها الجداول في تلافيف الوردة، كأنها الأحلام في تلابيب الحياة، معيريض وحدها تعرف كيف تقطف الحنان من أفئدة المحبين، وكيف تنسج خيوط التلاقي في قماشة العلاقة ما بين العاشق، والمعشوق، وما بين الكلمة والمعنى، وما بين عطر اليدين وحاسة الشم المرهفة.
معيريض وهي تصخب شوقاً لأولئك الذين تواروا خلف الحجب، والذين هبطت منازلهم عند سفوح الهجرة الاختيارية، أولئك الذين تركوا مشاعرهم تمشي على أديم تراب معيريض، كأنها الغزلان الباحثة عن عشب التشظي، أولئك الذين غابت أجسادهم، ولكن البريق لم يزل يضيء أزقة معيريض، ويحمل  أنيسه إلى حيث تسترخي المهج، معيريض وهي ترتل أنفاس النخلة، وتتبتل عند الجذور، متناهية العمق، تبدو في عيني الناظر أنها تتهجى الأبجدية بحصافة النابهين، وفصاحة العرفانيين والذين أنهكهم العويل وهم يرسلون بإشراقات ما فاض من حنين إلى تلك الأزقة، ورائحة الخبز المسائي، وأصوات النساء البدهيات، وهن يوغلن كفوف الفضيلة في تنانير اللظى، معيريض اليوم منتجع خرافي لأئمة السياحة، ورواد منازل الإرث القويم، معيريض لم تزل تحلم بعودة النائين بعيداً إلى حيث تغرد الأطيار، ويحتفل اللوز بخضرته الشتائية، وتغني الموجة عند كاسر الأمواج، محيية الطيور المهاجرة بكل الحب.