لقد شبعت العين من الأحزان خلال الأعوام المنصرمة، تتابع «شوابنا وعجائزنا»، ونحن نقول لم نشبع منهم بعد، آخرهم بالأمس السيدة الجليلة «عفراء» زوجة الشيخ مجرن، ذلك القاضي الذي كان يضع على عينيه المجهدتين نظارة طبية سميكة، لم يعرفها الأهالي في العين، فجلهم لم يفك حرفاً، ولا عرف قلماً، ولا أتعب عينيه في طلب العلم وسهر الليالي، ثم إن من يضعون النظارات الطبية قليلون في ذاك الوقت، ويعدون على أصابع اليد الواحدة، منهم الدكتور كندي، وعبدالله كشيمات، سائق الـ«شيفرليت» الأحمر المكشوف الذي ارتبط اسمه بمسمى النظارة بالعامية «كشمه»، وكانت مختلفة عن نظارة الشيخ مجرن، حيث كانت غامقة، وتغطي الوجه، واستعمالها كان بمثابة الزينة، واتقاء الهواء الذي يهب من نافذة الـ«شيفرليت» المكشوف.
كان الشيخ مجرن مثالاً للالتزام، والعفوية، وعدم التعصب، وتشديد المسائل على الناس، كان يقربها لفهمهم البسيط، ويصوغها بلهجتهم التي يعرفون، كان مثل الناس لا يتميز عنهم بلبس، أو بمظهر، أو علامة، شأن رجال الدين اليوم، كان يرتدي ثوباً خفيفاً أبيض، وغترة مرددة كيفما كان على رأسه، وحين يشتد علينا البرد يتدثر بصديري، وقلما كان يضع عقالاً على رأسه، كان غاية في البساطة، وهدوء الحال، تماماً مثل مشيته التي تشبه سير الظل البارد، لا مثل وقع الأقدام الحافية التي تدك في الحارة، ولا تلك الخفوف التي كانت ترد الفلج قبل أن ينسرب إلى العامد وقت الضحوي.
كان خفيف اللحم، نحيف البُنية، عليه سيماء العارفين، وصبر الورّاقين والخطاطين، لقد ظل على تلك الهيئة، لا تختلف صورة الذاكرة القديمة، عن صورة اليوم في العمر المتأخر، رغم كل مسافات العمر الذي تخطت المائة بعشر سنين، وانحنى الكتف قليلاً، وما عاد يمشي مشواره اليومي، وغادر إلى مكان آخر من مدينة العين التي كان يعرفها مثل كفه، تماماً مثلما غاب صديقه وجاره أحمد المهيري الذي كان يجسد الطهارة والصلاح، والكلام القليل، كان وضيء الوجه سمحاً مثل جاره الشيخ مجرن الذي كان مقصد الناس حتى ولو احتاجوا لمشورة دنيوية، لا دينية، كان محل ثقتهم، ومصدر استحسانهم، لا ينفّر، قدر ما كان يبشّر، يسعى الناس له، فيسعى لهم بالخير والمودة، وطيبة الإنسان حين يرفعه العلم، فيكبر في عيون الجميع.
تذكرت الوقت الذي انقضى، والناس الطيبين الذين يهزنا وداعهم، وهي حكاية من حكايات أناسنا الأولين، وكيف كانوا يسيرون على الهُدى، والصراط المستقيم، كانوا مبشرين بالنعيم، ومنذرين بالتي هي أحسن، يمشون بيننا بالبر والإحسان، لا يختلفون عن الناس، ولا يتمايزون، لا يحتكرون الجنة لهم، ولا يتوعدون الآخرين بالنار، الدين في المعاملة، والدعاء لا يسد له باب، يمرون على «البانياني» الذي يصنع أكياس الورق في جانب العين، ويسلمون عليه، وقد يسألون عن ابنته المريضة، يتعاملون مع صاحب الدكان القادم من بر فارس، بالمبادلة والمقايضة والسلف والدَّين، ولا يعرفون دِينه، ولا يهمهم إن كان يصلي على «قحف أو تربة» من كربلاء، والأجنبي كانوا فقط ينعتونه بالأحمر، كفكاهة اجتماعية، ولا يعنون الكافر، والملحد، ويتقاسمون اللقمة معه إن حلّ ضيفاً، يمكنهم أن «يهزبوا» ولد الجيران، لأنه خالف طبع الرجال، لكنهم لا يتبرأون منه، المجتمع هو أناسهم، والناس هم أهلهم، ولاؤهم للوطن، وحاكم الدار، هم الناصحون للصلاح والفلاح، ولا يرهبون الناس، ولا يجيّشونهم لمحاربة الأهل والعباد والبلاد بغية رغبات الشيطان. 
كان الشيخ مجرن مثالاً لمطاوعة الأمس النقيّين، ومثلما أحب العين، ظلت العين محتفظة بكل تفاصيله، وجميل أشيائه، وعطر عطائه، وبخط سيرته، ووئيد سيره الذي كان يشبه سير الظل البارد باتجاه نخيل لها رائحة الناس الأولين، وبالأمس لحقت به مخلفته السيدة الفاضلة عفراء بنت عبدالله المري، علّ لقاءً يجمعهما في ظلال النعيم، مثلما عاشا في دنياهما المليئة بالخير بهما، وبأعمالهما، وبدعاء الناس الأولين الطيبين الذين حين يحبون أحداً يضعونه على رؤوس عمائمهم، ويَفْدونه بماء «العين».