من بين المدن التي انشطرت جراء الحرب الأهلية، وكان الجانب الغربي بهويته المضطربة، وتداعيات حرب هوجاء لم يعرف من المنتصر فيها، لكن الذي تيقن الجميع منه أن الوطن هو الذي كان الخاسر الأكبر، كان وجهه الخراب والرماد، وكان الجانب الشرقي من المدينة التي لم يفصلها بحر أو نهر، غير المتاريس، ومراكز التفتيش، والقتل على الهوية، أكثر طمأنينة، وأقل ضجراً من الحرب، ويحاول أن يزرع كل أشياء الحياة بالعافية، وبالألوان الزاهية، فوجهه لم يكن بشعاً من الحرب، بل كان بشعاً بسبب الحرب، بين بيروت الغربية وبيروت الشرقية حين زرتها، والحرب بالكاد ألقت بأثقالها وأوزارها على كاهل الناس، ولم يغادر شبحها الرمادي، ومنجل الموت كان يتراءى للجميع في لحظات الغضب، ولحظات الضيق، ولحظات العوزة، زرتها وما زال في جو بيروت رائحة البارود، والبنادق حامية، التشيكي والروسي والأميركي والصيني والإسرائيلي، حيث لم يعد هناك في تلك المدينة الاستثنائية أحد طيّب أو أحد يريد أن ينسى أن الحرب نزعت روحه، وحلمه بأن يفعل خيراً، كنت نهاراً في بيروت الغربية، حيث للأشياء حضور المدينة القديمة بكل وهجها، وأناقة وقتها، وجلبة تجارها، وضجيج مرساها، وذلك التاريخ الذي يجول في الشطر الغربي، بما فيه من مناضلين، وسياسيين هاربين، ومثقفين «معترين»، وجواسيس ودلالين على كل الأشياء، وكنت ليلاً في بيروت الشرقية، حيث لذلك الشطر البحري من المدينة ألق آخر، ورائحة عطور جلبها المهاجرون الذين لا يأتون كثيراً في تلك الأيام، كانت بيروت الشرقية تسهر لكي تنسى، وتضرب أقداحها لكي تحلم، صحيح أنها لم تطعن في خاصرتها في الحرب، لكنها تهشمت في داخلها، وتغيرت مفاهيمها، وحياتها لن تكون بلون الربيع من الآن دائماً.
من المدن التي شطرتها الحرب إلى نصفين أو مدينتين، دون أن يكون سبب الشطر عنصراً من الطبيعة كجبل مهادن أو نهر يجري منذ زمن بعيد دون أن يضر أحداً من السكان، وحدها الحرب إن قُرعت طبولها، غنت هي أناشيد الموت، ومزامير الخراب، وغدا الإنسان جراءها مستوحشاً ووحشاً لا يعرف غير قرابين الدماء غير المقدسة، أنها «برلين» تلك المدينة الرائعة التي شطرها الجنون، والتباهي بتفوق العرق الآري على كل الشعوب، ومحاولة إذلال الأقوام في أوطانهم، فكانت الهزيمة في الخارج لينهار الداخل، ثم يخنع، ثم يقسم، وتملأ عليه شروط المنتصرين، لتظهر برلين الغربية، وبرلين الشرقية، ويكون بينهما ذلك الجدار المانع الذي مات تحت ظله المغامرون وعشاق الحرية، والمغايرون سياسياً وفكرياً، وعلى الجانبين، وتهمتهم الوحيدة المسجلة في الدفاتر القديمة «خونة وجواسيس»، وهم ربما كانوا فقط أقارب يريدون أن يقبلوا بعضهم بعضاً خلسة أو يحتضنوا بعضهم في عناق حار، منعتهم عنه تلك الأشواك الحديدية، والزجاج المرتكز والمكسر أو عشاق يريدون أن يتنفسوا هواء مدينتهم بعيداً عن العسكر، وحرابهم الطويلة المشهرة، يريدون عناق الشطر الغربي بالشطر الشرقي لحظة غروب شمس مدينة برلين الضاربة لذلك اللون البرتقالي الذي يشبه شعر نسائها الغاديات مثل مهور لا يبتغين غير البرّية مرتعاً، وغير ذلك المدى مسكناً.