تتميز أميركا بديمقراطيتها المعمرة، بالإضافة إلى رؤسائها المسنين، ومع ذلك تبقى الديمقراطية فيها أكثر عماراً وأطول عمراً.
هناك ثراء وتنوع في قلب الحياة السياسية بالمجتمع الأميركي، ولا يمكن إنكار هذه الفضيلة، وهي ميزة متأصلة منذ أكثر من قرنين. صحيح أن ترامب خسر الانتخابات الرئاسية، إلا أنه لم يترك السياسة من خلفه ظِهرياً، فسرعان ما أعلن عن عزمه لتأسيس تيار سياسي جديد يواصل كفاحه نحو الفوز في الدورات الانتخابية المقبلة. وقد أشارت إلى ذلك «وول ستريت جورنال»: ترامب يبحث مع مساعديه تأسيس حزب جديد يحمل اسم «حزب الوطنيين».
لكن ما يريد ترامب القيام به في المستقبل القريب، ليس بدعة بلا سوابق؛ فقد حاول كولن باول في زمن بوش الابن القيام بذات الأمر، حيث أعلن عن تأسيس «حزب الوسط»، إلا أنه تراجع عنه في اللحظات الأخيرة حفاظاً على اللحمة الوطنية في حال تشتيت الأصوات بين ثلاثة أحزاب بدل الحزبين، فالهم الوطني غلبه وتقدّم على الهوى السياسي. 
لقد تغيرت أميركا منذ بوش الابن وقدوم بايدن، مرتين ليستا كبقية المرات السابقة عليها، لقد ربط خيط الإرهاب بالمفاصل، ولعل المرحلة المقبلة هي الفصل المبين. فما مدى فرص ترامب بالفوز في مسعاه للوصول إلى سدة الحكم لفترة ثانية كما خطط له من قبل؟!
الفرص المتاحة لأي رئيس أميركي بعد انتهاء الفترة الأولى من رئاسته للفوز بفترة ثانية عبر الصناديق والمجمع الانتخابي هي أكبر بطبيعة الحال، وقد استنفذ ترامب تلك الفرصة ولم يستفد من السبل المتاحة بالتساوي للجميع، وباءت محاولاته بالفشل، والآن جاء دور المحاولة الأخيرة لما بعد الفترة المقبلة لنرى ما سيؤول إليه وضعه.
وعندما ضاقت به السبل، لجأ ترامب، وهو الرجل المقامر الشرس، إلى التلويح بإنشاء حزب ثالث ليكون فرس الرهان في المستقبل القريب. لكن ترى ما هو مصير هذا الحزب ابتداءً من الآن؟!
سوف نتكهن وفقاً للمعطيات المتاحة، ووفقاً لأسس الديمقراطية الأميركية، وذلك على ضوء قيام الكونجرس بمحاكمته. هذا ولم تمض أيام على مغادرته البيت الأبيض ليحل محله فيه بايدن، حتى أعلنت السلطات الأميريكية عن التحقيق حول تهديدات باعتداءات تصل إلى القتل تلقاها أعضاء بالكونجرس، مع تقدم عملية مساءلة ترامب.
وقبل أن نصل إلى المحاكمة، نقول إن ترامب يتكئ على قاعدة انتخابية ضخمة لا يستهان بها، قاعدة حجمها يتجاوز 70 مليون صوت، وهو مخزون مستقبلي يمكن البناء عليه لأن فرص الازدياد متاحة، خاصة فيما لو أخفق بايدن في الوفاء ببرنامجه الانتخابي.
وهنا ليس بالضرورة أن يفوز ترامب نفسه بالرئاسة، وإنما يمكن أن يكون طرفاً مؤثراً في ترجيح الأصوات لصالح أحد الحزبين، حتى لو استطاع الحزب الجديد الحصول على 20 مليون صوت فقط.
وقد وقع ذلك عندما رشح كلنتون نفسه للرئاسة لفترة ثانية، فكانت أصوات 40 مليون من أصل إيرلندي هي الراجحة في فوزه، عندما نجح في مسعاه لإحلال السلام في إيرلندا، وكذلك نجح بايدن في كسب أصوات السود في صفه، وهم يمثلون 20% من إجمالي السكان في أميركا.
لقد فشل «الديمقراطيون» في محاكمة ترامب، وهي المحاكمة التي كان من شأن نجاحها أن يجعل فرص الرجل في الفوز مستقبلاً مساوية للصفر السياسي. إن رفع الحصانة عنه كان سيضعه مباشرة في مواجهة ملفات عدة، بما فيها ملف عدم دفع الضرائب، وهو البداية التي قد تطول مع الملاحقات القضائية الأخرى.