أبديت في المقالة الماضية ثلاث ملاحظات على نتائج الانتخابات الليبية الأخيرة التي أسفرت عن تشكيل مجلس رئاسي واختيار رئيس وزارة جديدين، وتعلقت الملاحظة الثالثة منها باستمرار وجود القوات الأجنبية والمرتزقة في ليبيا رغم كل القرارات الدولية التي تقضي بخروجها، فمعنى بقائها أن عملية إعادة البناء سوف تتم تحت رحمتها ومن ثم تستطيع تخريب أي حل لا يأتي في مصلحتها. وحذّرت المقالةُ من محاولة التفرقة بين قوات أجنبية شرعية بدعوى أنها جاءت باتفاق مع حكومة السراج وأي قوات أجنبية أخرى، علماً بأن هذا الاتفاق جاء باطلاً، سواء لانتهاء الأمد الزمني لحكومة السراج وفقاً لاتفاق الصخيرات (أساس شرعيتها)، أو لأنها لم تحصل على ثقة مجلس النواب أصلاً. وفي يوم نشر المقالة أدلى أردوغان بتصريح أعلن فيه أن تركيا «ستبحث» سحب قواتها من ليبيا إذا سحبت الدول الأخرى قواتها أولاً. وأضاف أن قواته موجودة لتدريب الوحدات الموالية لحكومة الوفاق.
لكن ثمة ملاحظات أربع على ذلك التصريح، أولاها أنها تفترض وجود قوات لدول أخرى في ليبيا غير القوات التركية، وهو افتراض غير صحيح، لأن القوات الأخرى غير نظامية، ومن المؤكد أن قرار الانسحاب سيشملها إذا نُفذ. والملاحظة الثانية أن أردوغان لم يأتِ بحرف عن المرتزقة الذين جلبتهم تركيا لليبيا والذين قدرت الأمم المتحدة عددهم بعشرين ألفاً. والثالثة أنه يذكّرني بالنهج الذي اتبعه صدام حسين بعد غزوه الكويت حين أعلن مبادرته المشهورة باسم مبادرة الربط، ومفادها أن حالة الوجود العراقي العسكري في الكويت ليست الوحيدة في المنطقة، فهناك الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية والسوري للبنان، وأن هاتين الحالتين يجب تسويتهما قبل الحالة العراقية في الكويت، وبعدها «تُبحث» (نفس اللفظ الذي استخدمه أردوغان) هذه الحالة على ضوء ما أسماه صدّام بالحقوق التاريخية للعراق! وهو نفس منطق أردوغان، فهو لا يتعهد بسحب قواته وإنما يعد ببحث المسألة إذا انسحب الآخرون، فإذا انسحبوا أثار حجة شرعية وجود قواته، وهو ما ينقلنا إلى الملاحظة الرابعة بخصوص تصريحه بأن الهدف من وجود قواته هو تدريب الوحدات الموالية لحكومة الوفاق، فهذا التصريح يسحب الشرعية من وجود قواته لأنها منحازة بنص كلماته لحكومة لم يعد لها وجود، بينما التركيز الآن على بناء شرعية جديدة بعيداً عن الضغوط الخارجية.
من هنا تأتي أهمية البيان الصادر عن اجتماع وزراء خارجية مصر واليونان وقبرص بعد تصريحات أردوغان بيومين، والذي وضع النقاط فوق الحروف بخصوص وجود القوات التركية في ليبيا بعيداً عن اللغة الدبلوماسية المعتادة، فقد تضمن البيان عناصر إيجابية كالتأكيد على التنفيذ الفعال لوقف إطلاق النار، واحترام الحظر الأممي على تصدير الأسلحة، والتطبيق الكامل لمخرجات اجتماعات اللجنة العسكرية المشتركة (5+5)، وبخصوص وجود القوات العسكرية الأجنبية، جاء البيان شديد الوضوح، فقد شدد على ضرورة الانسحاب الكامل لكافة القوات والمرتزقة الأجانب، واعتبر أي تدخل أجنبي غير مقبول، والأهم أنه نزع الشرعية عن كل الاتفاقيات المبرمة بالمخالفة للقانون الدولي. ولكي لا يترك البيان مجالاً لأي شك في ماهية هذه الاتفاقيات، دعا الحكومة الليبية الجديدة لاعتبار مذكرات التفاهم الموقعة بين تركيا وفايز السراج في نوفمبر 2019 لاغيةً، وهما المذكرتان الموقعتان بخصوص التعاون الأمني وترسيم الحدود البحرية. 
غير أن ذلك البيان بطبيعة الحال لا يكفي لإجبار تركيا على سحب قواتها، وإنما يحتاج الأمر إلى إرادة ليبية شعبية موحدة ضد استمرار وجود القوات الأجنبية والمرتزقة، وكذلك إرادة دولية تضغط من أجل إنهاء هذا الوجود وتوفر بديلاً أممياً لحماية خطوات التسوية وحفظ السلام.