في كثير من الأحوال يفشل الحوار الديني ـ المدني، نظراً لتمسك أنصار الجماعات والتنظيمات الإسلامية صاحبة المشروع السياسي بتصورات يرونها من الثوابت، ويعتقدون أن إبداء أي مرونة فيها هو خروج من الملة، أو تفريط في العقيدة، أو إنكار معلوم من الدين بالضرورة. على الجانب الآخر، لا يخلو المدنيون من متعصبين لأيديولوجيات تتحكم في رؤيتهم للأمور. ولذا فإن قام حوار بين الطرفين في ظروف سياسية طارئة، وأجواء مشحونة بالتوتر، فلا محالة سينتهي إلى بوار.
كانت هذه الخلاصة راسخة في ذهني وأنا ذاهب إلى جامعة سقاريا التركية لإجراء مناظرة مع ممثلين لجماعة «الإخوان» ومن تحالف معها من التيار السلفي المصري، بترشيح من أستاذ بالجامعة طلبَ مني تمثيل «التيار المدني»، وكان من معارضي حزب «العدالة والتنمية»، وقال لي إن كثيراً من طلاب الجامعة مقتنعون برؤى العلمانية ومساراتها، ويرون أن فصل الدين عن السلطة السياسية ضرورة للتقدم الإنساني.
كان هذا في شهر أكتوبر من عام 2012؛ أي بعد تولي «الإخوان» مقاليد السلطة بأربعة أشهر تقريباً، وأيامها كان الخلاف في مصر على أشده، والسجال بين أتباع التيارين يمتد من شاشات التلفاز إلى الحواري الضيقة والمقاهي والحقول والمصانع والجامعات والمدارس، فالثورة كانت لا تزال حاضرة، وتلهب الأعصاب والعروق، والهوة بين الجانبين تتسع تدريجياً، ولا يلوح في الأفق ما يؤدي إلى جسرها.
في قاعة المناظرة كان الموقف مختلفاً، فعلى وجوه الجالسين الذين أتوا ليسمعوا ممثلين للثورة المصرية هدوء المطمئنين إلى ما هم فيه، وفي عيونهم رغبة في المعرفة. لم يجلس أنصار كل فريق في مكان، بل تجاوروا على المقاعد الخشبية الممتدة، وهو ما أدركته بعد بدء المناظرة، مما ارتسم على الوجوه، أو نطقت به المداخلات التي أدلوا بها، والأسئلة التي طرحوها.
كان هذا أول ما اصطدم به ممثلو «الإخوان» والسلفيين المصريين، الذين جاءوا إلى تركيا وفي مخيلتهم أنهم ذاهبون إلى أرض «الخلافة الإسلامية» وكل من هنا سيكون معهم قلباً وقالباً، لكن أدركوا رويداً رويداً أنهم في بلد به للعلمانية جذور قوية منذ أن غرسها مصطفى كمال أتاتورك، وأنقذ بقايا الإمبراطورية العثمانية المتداعية، وإلا ما كانت هناك دولة اسمها تركيا. فهم ما إن وضعوا أقدامهم في الباص الصغير الأنيق الذي يحملنا من إسطنبول إلى سقاريا، حتى وجدوا أنفسهم أمام موسيقا عذبة وغناء طروب ينساب من المذياع، وبعضهم كان يرى أن الموسيقا حرام، وحين مررنا بالجامعة التي ستجري فيها المناظرة، ونحن في طريقنا إلى الفندق، رأوا على واجهتها صورة ضخمة لأتاتورك. وفي أول خروج لهم للتنزه في المدينة رأوا الفتيان والفتيات في جلسات على المقاهي، يدخنون الأرجيلة، ويتبادلون الأحضان، وشاهدوا أفيشات الأفلام على الجدر الأمامية لدور السينما، والنسوة حاسرات الرؤوس، والرجال حليقي اللحى، ينهبون الشوارع في طريقهم إلى أماكن العمل أو التسوق.
هذا السياق جعلهم يدركون أنهم ليسوا في المكان الذي رسموا له صورة مختلفة، وسعوا إليه، وهم في ثقة من أن عودة السلطان باتت قريبة. وهي مسألة كان يؤمن بها أحد مستشاري وزير الخارجية التركي الذي قابلته على هامش المناظرة، فقال لي: سيحكم العالم العربي من أنقرة، وكان الآتون معي من مصر يتساوقون مع هذا التصور إلى حد بعيد.
وانعكست الصور والتصرفات والطقوس في مختلف الأماكن، وآخرها مكان المناظرة، على المناظرة، حيث لان هؤلاء، وتراجعَ تشنجهم بعض الشيء، وهم يرون أن الحياة يمكن أن تستوعب من يعتقدون أنهم أعداؤهم التاريخيون، وأن الاختلاف سنتها، وأن البشر اكتسبوا حرية- في طريقهم الشاق إلى المدنية- لا يمكن التنازل عنها، وأن أردوغان ورفاقه ليس بوسعهم إنكارها، وأن التحايل المتدرج بغية الإجهاز عليها مع الزمن قد يؤدي إلى فقدانه هو الحُكم، أو منْ يأتي بعده، ويسير على دربه.