فجأةً أبرقت ملامح ضوء خافت في نفق أزمة تأليف الحكومة اللبنانية، بعدما أدى تصعيد المواقف حتى القطيعة إلى مستويات غير مسبوقة بين الرئيسين عون والحريري (وطبعاً جبران باسيل). هذا الصراع حول صلاحيات رئيسي الحكومة والجمهورية، وحول جزئيات الدستور في هذا المجال، أدخل اليأس إلى قلوب اللبنانيين المفجوعين بوباء كورونا، وبالانهيار الاقتصادي ونفاد الأدوية والتموين، وبتحقيقات انفجار مرفأ بيروت، وتصاعد أعداد الضحايا والمصابين بفيروس كورونا برغم الإقفال العام، حتى ضاقت بهم المستشفيات بأسرّتها وغرفها. 
وكأن الناس في وطنهم الذي بلغ حد المجاعة في وادٍ، وبعض متقلّدي السلطة في وادٍ آخر. لا حكومة أصيلة، ولا مسؤولون، لا مرجعيات ثابته وأكيدة. غموض في معرفة مَن يحرك خيوط الأزمات، وخصوصاً تأليف حكومة جديدة، أهي خيوط تمتد من الخارج إلى الداخل، أم من الداخل إلى الخارج، أم من الاثنين معاً؟
إنها عودة «المنقذ» الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بعد محاولات يائسة أجراها مع المسؤولين اللبنانيين في زيارتين، ومن خلال موفدين وممثلين له. هل رمى الصيغ القديمة وراءه؟ هل رسم معايير جديدة أكثر مرونة من سابقاتها؟ أم أن تجاوزاً للبطاقات والأعداد أدى لتغيير في لعبة اللاعبين الخارجيين: بايدن محل ترامب، أي الليونة محل الحزم، إيران لم تتغير، بل لعل ما يجري حولها وداخلها من ضوضاء حول مفاوضات النووي مع الولايات المتحدة قد أدى إلى خروج موقف حليفها «حزب الله» من وراء كواليس تعطيل الحكومة بوساطة الرئيس عون وصهره وخروج الرئيس بري من إضرابه أو «عزوفه» عن الكلام بموقف «شديد البأس»: انخراط متوازٍ؛ ماكرون ونصر الله وبري.. «يتمثل بتحميل الرئيس عون وتياره مسؤولية التعطيل بمطالبته بالثلث المعطل (وهذا ما نفاه الرئيس عون)! كل اللاعبين الخارجيين والداخليين، أطلوا وكأنهم أبطال حلول غيبية جديدة، لكن عند بعضهم حذر وحيطة، أو فلنقل «لا ثقة». فماكرون الذي راهن في مشروعه لإنقاذ لبنان على موقعه الداخلي في بلده، وكذلك صيته الخارجي، يحرص هذه المرة على أن تكون كل الأجواء ملائمةً ليتوج مساعيه بزيارة ثالثة إلى لبنان، حاملاً خطته وشروطه، أي أن يتأكد من جدية الأطراف (خصوصاً «حزب الله» والرئيس عون)، لأن مصداقيته، شرقاً وغرباً، باتت على المحك. فهناك عدد من معارضيه في فرنسا نددوا بفشله، وأخذوا عليه انجراره في مغامرة سياسية غير مدروسة ولا محسوبة. ولم توفره الصحافة الفرنسية التي هللت في البداية لمبادرته اللبنانية ثم نعتْها.
إذن، المناخات عن بُعد جميلة، مشمسة، منقشعة (تماماً كما كانت في زيارته الأولى في أغسطس الماضي) حيث امتثل الجميع لرؤيته: حكومة اختصاصيين من غير الحزبيين لمفاوضة صندوق النقد الدولي والمانحين الأجانب، ثم، وقبل وصوله إلى باريس بالطائرة، انقلبت المواقف كلها عليه.. بل واتهمته بعض المواقع الإعلامية لحزب الله بـ«استعادة زمن الاستعمار الفرنسي»، فطعنوه في الخلف، ومسحوا توقيعاتهم وأصواتهم وكأنها لم تكن.
فهل يتكرر سيناريو الأمس اليوم؟ وهل سيبقى «حزب الله» على مواقفه، وهو المعروف بتقلباته؟ وهل سيقبل الرئيس عون بهزيمة صهره (والذي يهيئه لخلافته في رئاسة الجمهورية)؟ والأهم: هل سيواجه في تأليف الحكومة ما واجهه في التكليف؟