كلما سمعت أغنية جديدة من تلك الأغاني الإلكترونية التي يظهر فيها الحديد وطرقه المتواصل، ويغيب الصوت الإنساني، وتضيع المعاني في الكلمات المفككة أتذكر فيلم «الكيف» والفنانين القديرين الراحلين «محمود عبد العزيز، وفؤاد خليل»، وكيف تشكل تلك الأغاني الهابطة ذوقياً وفنياً ذاكرة أجيال، وكأنها تمثل «الكيف» الآخر الذي يسطل، و«كيف» الأغاني الذي يغيّب الحس، ويضيّع الأحاسيس، ويذهب باتجاه التافه من الأمور، وبعد معادلة الفنانين الكبار من الجيل القديم بزخمه الغنائي، وما مثلوه من رقي في أذواق الناس، حتى أن حفلاتهم كان الناس يحضرونها بالملابس الرسمية الفاخرة، أراد «محمد عبد الوهاب» أن يجرب شكلاً آخر من الغناء سراً، وقد كان بعضه سائداً في العشرينيات من القرن المنصرم، ووصفه النقاد الفنيون حينها بـ«المنحط» لأسفل قاع المجتمع الجاهل، فظهر «أحمد عدويه» بأغنيته المشهورة «السح اندح أمبو» التي يُقَال إن عبد الوهاب هو من لحنها، مثلما عمل تلك المقامات البديعة للمقرئ «عبدالباسط عبد الصمد» في قراءة قصار السور، فسادت أغاني «عدويه» وغيره من المطربين الشعبيين في الأفراح والملاهي الرخيصة وعشاق «الكاسيت» من سواقي الأجرة، ومما زاد في انتشار ذلك النوع من الغناء، انقلاب الهرم الاجتماعي في مصر حينها مع انفتاح السادات الذي أظهر طبقات المجتمع السفلى إلى السطح، فتحولت الطبقة الوسطى المتعلمة والتي كانت تقود المجتمع إلى طبقة مستغلة وكادحة، وطفت على سطح المجتمع طبقة غير متعلمة، ولكنها كانت تجرب حظوظها في الكسب المالي بالحلال والحرام كالمخدرات والغش في المقاولات والتهريب، فظهر ذوقهم السوقي، وفرضوه على المجتمع لأنهم سادته في وقتها.
لسنا ضد التغيير والتجديد وإعادة التوزيع، حتى حين برزت ظاهرة الـ«فرانكو آراب» كان للواعين من المستمعين رأيٌ وسطٌ، وبعضهم تقبلها، وفرح بظهورها، لكن الذي بقي للناس ولذاكرتهم الغناء الأصيل، واندثرت أغاني الـ«فرانكو آراب»، ومع الانفتاح الغنائي العربي من المحيط إلى الخليج تداخلت أشكال الغناء والتجريب، فمن الناس من أحب تجربة «ناس الغيوان»، و«جيل جلاله» المغربية، ومنهم من أغرم بـ«الراب» الجزائري، ومنهم من عشق «الملحون» و«الطرب الأندلسي» المغاربي، وذات الأمر مع الفن الغنائي الخليجي أو الصنعاني أو «القدود الحلبية».
لكن في الألفية الجديدة ظهرت أشكال غناء وتجعيرّ بالغناء، وأغاني «فيديو كليب» تعتمد على الاستعراض الجسدي الأنثوي، وأغانٍ مثل أغنية «الحصان»، واستحضار ممثلين أتراك من ذوي الوسامة التلفزيونية الناجحة أو أغاني «هيفاء» الهايفة، وجرّت مسبحة التفاهة في الغناء، وسمعنا الذي لا يسمع، ولَم يتوان مطرب عن تسجيل أغنيته من حمام عمومي أو مطربة من غرفة نومها، وضاع الكلام والشعر واللحن، وظهر الإيقاع الراقص فقط.
اليوم فقط أردت أن أفكك أغنية «هبيبي.. يا هبيبي» نصّيّاً وفنّيّاً، فلم أتذكر من الأغنية التي اشتهرت في أوساط المجتمع إلا كلمتي «هبيبي.. يا هبيبي»، وإذا لم تعرف الجملة الفرنسية التي تليها، فالأمر يذهب للغرابة، ولا أدري ما هو موقع الفنان «محمد رمضان» في الموضوع والأغنية، خاصة وأنه لا يغني، ولا يؤدي، ويقول من الكلام المبعثر بصوته الأجش ما لا معنى له، ولو حذف من الأغنية فلن يضيرها شيء. يقول الحاج رمضان: «مالي أنا، ومالها، مالها، خليها في حالها، حالها، مش هجر شَكَلْها، شَكَلْها، ما أنا عارف إنها هترجع تاني بمزاجها»، أنا أعتقد أن علينا بعد تطعيم كورونا، أن نباشر في التطعيم ضد أغاني «مادونا»!