يحتم ظهور نتائج الشركات والصناديق والمؤسسات المصرفية والمالية لعام 2020 دراسةَ أوضاع هذه المؤسسات وأدائها وتقييمها وإعادة النظر في سياساتها الاستثمارية، وذلك لاعتبارات عديدة، يأتي في مقدمتها الوضع الاستثنائي للعام الماضي بسبب جائحة «كوفيد-19» وما فرضته من تحديات وفرص وتغييرات هيكلية في بنية الاقتصادات الوطنية والاقتصاد العالمي ككل.
وقد أظهرت نتائج هذه المؤسسات مدى نجاح بعضها في الاستفادة من ظروف الأزمة لتحقيق أرباح طائلة، وذلك باستغلال الفرص التي ترتبت على هذه الظروف الاستثنائية بسبب تغير نمط الأنشطة الاقتصادية وبروز شركات جديدة اكتسبت خدماتها أبعاداً مستقبليةً مهمةً، كشركات التكنولوجيا التي حققت قفزات كبيرة وتضاعفت أسعار أسهمها بصورة غير متوقعة.
ويعتبر صندوق التقاعد النرويجي، وهو عملياً صندوق الثروة السيادية للنرويج، واحداً من أكثر المؤسسات التي استغلت ظروف الأزمة بذكاء، ليحقق عوائد كبيرة عززت من موقعه كأكبر صندوق سيادي في العالم، حيث تشير نتائجه لعام 2020 إلى أنه حقق أرباحاً بنسبة 10.9% وبمقدار 101.5 مليار يورو، وهي نسبة عالية جداً، قلّما تحدث في مثل هذه المؤسسات لترتفع قيمة أصول الصندوق إلى 1035 مليار يورو أو 1250 مليار دولار.
وجاءت هذه النتائج بفضل السياسة الاستثمارية المدروسة والمهنية، حيث التقط الصندوق بسرعة فائقة التحولات المستقبلية لأزمة كورونا، ليتخارج من بعض الأنشطة مع التركيز على أسهم شركات التكنولوجيا، إذ استحوذت استثماراته في الأسهم بشكل عام، بما فيها أسهم التكنولوجيا، على 72.8% من محفظته الاستثمارية لتشمل 9200 شركة. وقد سجلت شركات التكنولوجيا أكبر عائد بنسبة 41.9%، وذلك بفضل انتباهه إلى التغيرات التي سادت الاقتصاد الدولي العام الماضي والتي أدت إلى ارتفاع الطلب على التجارة الإلكترونية والتعليم عن بعد والترفيه الإلكتروني.. إذ ستدعم هذه الإنجازات سعي النرويج لتعزيز دولة الرفاهية المدعومة أيضاً بالثروة النفطية والتي يُخصص جزء كبير من عائداتها للاستثمار في الصندوق.
متابعة ذلك تطرح تساؤلات مهمة تتعلق بأداء صناديق التقاعد الخليجية، والتي يعاني بعضها من صعوبات متزايدة بسبب ضعف أدائه الاستثماري والازدياد المتنامي لأعداد المتقاعدين، وبالأخص ما يسمى التقاعد المبكر الاستثنائي والذي لا يوجد له مثيل في بقية بلدان العالم، والذي يتيح التقاعد لأعداد كبيرة في سن الشباب.
لقد سبق وأن أشرنا في أكثر من مقالة إلى الخلل الكبير الذي تعاني منه بعض صناديق التقاعد الخليجية، من الناحيتين الإدارية والاستثمارية، إلا أن الأوضاع بقيت على حالها لتتعمق أزمات هذه الصناديق عاماً بعد آخر وتفرض أعباءً جديدةً على موازنات دول المجلس، والتي تضطر لتقديم الدعم المالي لها لضمان استمرار أعمالها والقيام بواجباتها. فعلى المستوى الإداري والتنظيمي، فقد حان الوقت لإنهاء ما يسمى التقاعد المبكر والذي خلق نوعاً من «الكسل والاتكالية» لدى فئات متعلمة يمكنها المساهمة في التنمية لأكثر من عشرين عاماً إضافية، كما أن هناك ضعفاً عاماً في الهياكل الإدارية الاستثمارية لهذه الصناديق والتي تتركز معظم موجوداتها في الودائع المصرفية والتي وصلت عوائدها إلى الصفر تقريباً (0.25%)، وهي مرشحة للتحول إلى النسبة السالبة، مما سيخلق تعقيدات جديدة لصناديق التقاعد الخليجية.
والحال أن ذلك يتطلب وبصورة ملحة إعادة النظر في السياسات الاستثمارية لهذه الصناديق، مع الاستفادة بصورة خاصة من تجربة الصندوق النرويجي. ورغم أن فرص 2020 مرت دون الاستفادة منها بسبب نقص التنوع وضعف المهنية الاستثمارية، وطارت الطيور بأرزاقها، إلا أن فرص التنوع متوفرة دائماً في الأسواق. وكل ما هنالك هو أنه ينبغي استغلالها بذكاء من قبل إخصائيين على مستوى عال من المهنية، وهو ما تفتقده صناديق التقاعد الخليجية، مع بعض النجاح لبعضها. فالمؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية في الكويت حققت أرباحاً بقيمة 12.1 مليار دولار في النصف الأول من العام الماضي بنمو 362%، كما وقع صندوق التقاعد بأبوظبي قبل يومين شراكة مع شركة أدنوك العملاقة، وهو توجه صحيح ومهم لمستقبل الاستثمارات للجانبين. وعدا عن ذلك، ستستمر المعاناة وضياع الفرص والحاجة إلى الدعم الرسمي وتحميل أعباء إضافية للموازنة السنوية العمومية، وهو أمر ربما من الصعوبة الاستمرار فيه مستقبلاً.