تتجدد المظاهرات في فرنسا رغم قيود فيروس «كوفيد-19» وسوء أحوال الطقس، احتجاجاً على مشروع قانون «الأمن الشامل». وقد تجمَّع آلاف المحتجين في عدة مدن فرنسية للتنديد بتقييد الحريات وبالقيود المفروضة للحد من انتشار الفيروس وللمطالبة بإنعاش القطاع الثقافي الذي تضرر بشدة جراء الوباء. وانضم إلى المتظاهرين نشطاء من حركة «السترات الصفر» التي اجتاحت فرنسا لأكثر من عام قبل أن يقيد الوباءُ نشاطَها. ويحتج المتظاهرون ضد مشروع قانون يحظر تصوير أنشطة الشرطة، وقال الرئيس إيمانويل ماكرون إنه سيعيد النظر فيه، كما يحتجون ضد استخدام وسائل جديدة للمراقبة مثل الطائرات من دون طيار.
وأثارت لقطات لعناصر من الشرطة وهم يضربون منتِجاً موسيقياً أسود البشرة داخل الأستوديو الخاص به في باريس يوم 21 نوفمبر 2020، الغضبَ من مشروع القانون الذي ندد به كثيرون واعتبروه مؤشراً على الانحراف نحو اليمين. 
وبدأت الاحتجاجات في فرنسا، ومنها تلك التي تخللتها اشتباكات بين متظاهرين وعناصر الشرطة، في نوفمبر الماضي، وذلك بعد تبني الجمعية الوطنية، في قراءة أولى، مشروع قانون «الأمن الشامل» الذي تفرض المادة 24 منه عقوبات سجن تصل إلى سنة ودفع غرامة قدرها 45 ألف يورو في حال نشر صور لوجوه أو مكونات الهوية الأخرى لأفراد الشرطة وقوات الدرك أثناء أدائهم واجباتهم «بغية الإضرار بسلامتهم الجسدية أو العقلية».
وعارضت النقابات الصحفية هذه المادة، مخافَةَ أن يلحِق تطبيقها أضراراً بحرّية التعبير عبر منع الصحفيين والمواطنين العاديين من تصوير عناصر الأمن أثناء المظاهرات. وفي هذا الصدد أشارت العديد من المنظمات الدولية، ومنذ مدة، إلى طريقة تعامل قوات الأمن الفرنسية مع المتظاهرين، لاسيما في صفوف السترات الصفراء، مندِّدةً من جهة أخرى بـ«نظام قضائي» يهدف إلى «قمع» أشخاص لم يرتكبوا جنحاً. وأضافت أن أكثر من 400 ألف شخص تمت إدانتهم على أساس «قوانين غامضة». كما أن الذاكرة العامة لم تنس بعد الحكم الذي صدر من طرف المحكمة الجنائية بالسجن 5 سنوات، ثلاث منها مع وقف التنفيذ، على رئيس الوزراء الأسبق والمرشح اليميني للانتخابات الرئاسية في عام 2017 فرانسوا فيون إثر إدانته في قضية وظائف برلمانية وهمية استفادت منها زوجته بينيلوب واثنان من أبنائه. وحُكم على زوجته بينيلوب بالسجن ثلاث سنوات مع وقف التنفيذ.
الانطباع السائد في المقالات التحليلية الجادة وفي التقارير المؤسساتية الفرنسية البارزة أن الدولة الفرنسية تعاني أزمة ثقة بينها وبين مواطنيها. وهنا تعنون مجلة «لوبوان» أحد أعدادها: «كيف تولد الثورات؟ هل نحن في سنة 1789؟». وكما هو معلوم فقد اندلعت الثورة الفرنسية في عام 1789 إبان مرحلة من الاضطرابات الاجتماعية والسياسية أثَّرت بشكل بالغ على فرنسا وعلى كل الدول الأوروبية، حيث انهار في غضون ثلاث سنوات فقط النظام الملكي المطلق الذي حكم فرنسا لعدة قرون. وخضع المجتمع الفرنسي لعملية تحوّل مع إلغاء الامتيازات الإقطاعية والأرستقراطية والدينية وبروز الجماعات السياسيّة اليساريّة الراديكالية، إلى جانب بروز دور عموم الجماهير وفلاحي الريف في تحديد مصير المجتمع. كما تم رسمياً تبنِّي مبادئ التنوير، وهي المساواة في الحقوق والمواطنة والحرية، ومحو الأفكار السائدة، والتحرر من التقاليد ومن التسلسل الاجتماعي الهرمي ومن هيمنة الطبقة الأرستقراطية والسلطتين الملكية والدينية. وعاشت الدولة الفرنسية في تلك الفترة حالةً من انعدام الثقة، حيث كانت واقعةً تحت رحمة المستفيدين من اقتصاد الريع. أما اليوم فتخضع الدولة الفرنسية لمن تقوم بتمويلهم. كان الملك لويس السادس عشر قد خلق نظاماً إقطاعياً قوياً، ونفس الشيء يقال عن «الجمهورية الخامسة» برئاسة ديغول الذي أرسى «الدولة القوية».