تقترب ذكرى إعلان «وثيقة الأخوة الإنسانية من أجل السلام العالمي والعيش المشترك» التي أطلقت في أبوظبي عام 2019 ووقع عليها شيخ الأزهر وبابا الفاتيكان، وكان حدثاً عظيماً أن تقر الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم الرابع من فبراير يوماً دولياً للأخوة الإنسانية، تخليداً لهذه الوثيقة التاريخية، حيث يحتفل العالم كله بهذه المناسبة، ابتداءً من هذا العام 2021.
إنها وثيقة العيش المشترك بين أبناء الديانات، وبين البشر جميعاً، دون النظر إلى عقائدهم وأعراقهم وألوانهم وتوجهاتهم الفكرية، فالأخوة الإنسانية هي الينبوع الأول الذي تلتقي عنده البشرية كلها، وهم يتقاسمون العيش على كوكب الأرض، وقد قربت فيه المسافات، وتعمّق التعارف بين الشعوب والأمم، ونحن نعيش هذا القرن عصر التواصل الأعظم في تاريخ البشر بفضل التقدم التقني، وبفضل انتشار المعرفة وتمازجها وانتمائها إلى البشرية، ولم تعد الحضارات القائمة اليوم ملكاً لأمة أو شعب بذاته، فهي نتاج شراكة أممية، ولم تعد اللغات عائقاً أمام التواصل، فالتقدم التقني ذاته جعل الترجمة متاحة بسهولة بين كل لغات البشرية، وبات انتقال المعلومات بين الشعوب آنياً. ومنذ أن أُطلق على العالم لقب «القرية الصغيرة» انتهت مسافات الجغرافيا، ودخلنا العالم الرقمي، وتبادلت الشعوب عاداتها وتقاليدها وأفكارها وأفراحها وأتراحها. وحسْبُنا اقتراباً واندماجاً درس جائحة كورونا التي وحّدت البشرية في المصاب، وتفاعل العالم كله مع هذا الوباء الشامل، كما تتفاعل أسرة واحدة حين يلم بها حدث جلل.
لقد كان حلم الحكماء والفلاسفة عبر التاريخ كله أن تسمو البشرية فوق خلافاتها، وأن تنشر ثقافة التسامح والمحبة، لكن المفجع أن الإنسان يعيش صراعاً أبدياً بين الخير والشر في داخله، والشريرون يميلون إلى إفساد الحياة وإلى سفك الدماء، أما الخيرون فيدعون إلى بناء الحياة وتلبية احتياجات الإنسان، وتحقيق أمنه وكرامته، وإلى إيقاف نزف الدماء، وإلى التسامي فوق كل الاختلافات والعيش السمح في المساحة الأكبر التي يتفق عليها البشر وتتحقق فيها مصالحهم جميعاً. وحين يتحقق العدل وينتفي الظلم، ويدرك البشر أنهم سواسية أمام الحق، ويتوقفون عن أي عدوان على الآخر، تصبح الحياة كريمة للجميع، ويصبحون جديرين بها لأنهم عقلاء، مهمتهم الكبرى بناء الحياة وإعمارها، والتقدم المشترك في وسائل العيش، لكن هذا العدل غاب عن كثير من حيوات البشر، فكانت الحروب نتاج عدوان من جهة على أخرى، ونزفت البشرية بحاراً من الدماء من أجل أهداف تبدو تافهة حين نتأمل مساراتها الحمقاء، وقد انساقت إليها شعوب اضطرت للدفاع عن نفسها وعن حقها في الحياة.
وقد أنزل الله الأديان السماوية عبر رسله لدعوة البشرية إلى الإخاء الإنساني، وسميت المسيحية دين المحبة لأنها حضت على التسامح بين البشر، وعلى الصفح والمحبة، ثم جاء الإسلام متمماً لكل مكارم الأخلاق الإنسانية ومصدقاً لما بين يديه من رسالات السماء، مقدماً للبشر حرية الاعتقاد والتعبير عنه، منادياً: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً»، وحضهم على التعارف بينهم: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ». وهذا الخطاب للناس جميعاً، وهو مضمون وثيقة الأخوة الإنسانية، وهو ما تدعو إليه كل الرسالات السماوية لأنها رسالات أخلاقية ربانية واحدة وإن اختلفت فيها بعض التشريعات.
لقد آن للبشرية التي حققت تقدماً مذهلاً في العلوم، وتفوقت في هذا العصر على كل العصور السابقة في وسائل العيش وفي الاكتشافات والاختراعات، أن تصل إلى عقد اجتماعي عالمي ينهي الحروب ويحل المشكلات بالحكمة والقانون الدولي، ولو أن ما ينفق على الحروب والتسلح أُنفق في مكافحة الفقر والجهل والمرض، لما امتلأ الكوكب بالمشردين والفقراء البائسين، وثروات الأرض تكفي الأرض، لولا طمع الظالمين.
نبارك لدولة الإمارات العربية المتحدة مبادرتها التاريخية التي تستعيد بقوة وثيقة المدينة المنورة التي أطلق فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم اسم «أمّة» على كل سكان المدينة المنورة من كل الأديان والأعراق، وضم عهدُ الدفاع المشترك اليهودَ والمسيحيين والمسلمين والمشركين.