هناك ثلاثة تسوناميات تواجهها العديد من دول العالم: تسونامي صحي، تسونامي اقتصادي، وتسونامي سياسي. وقد تحدثنا بما فيه الكفاية عن التسوناميين الأولين في صفحات هذه الجريدة الغراء، وبقي أن نتحدث عن التسونامي السياسي الذي أصبح محور الأخبار الدولية، ولكونه الشريان الأساسي الذي منه تتدفق كل نواحي الحياة المتعددة. فمنذ أيام سمعنا أن الحكومة الهولندية قدّمت استقالتها على خلفية فضيحة واسعة هزت الطبقة السياسية في البلاد، جراء اتهامها آلاف العائلات بالاحتيال، للحصول على مساعدات اجتماعية، وأجبرتها على إعادتها ما أغرقها في العديد من المشاكل المالية. كما واجه العديد منها تمييزاً عرقياً، استناداً إلى ازدواج الجنسية. 
وفي الولايات المتحدة الأميركية رأينا كيف أن الرئيس جو بايدن أدى اليمين، وكيف جلس على عرش البيت الأبيض في دولة تعرف انقسامات خطيرة وهوة بين أفراد الشعب الأميركي وانتشاراً للعنف والتفرقة. إنه بحر السياسة الذي لا ساحل له. وقد تنبه لذلك العالم الألماني ماكس فيبر (1920-1864) في محاضرتين تاريخيتين ألقاهما خلال سنوات قبل وفاته: «العلم بوصفه حرفة» و«السياسة بوصفها حرفة»، فقد ألقاهما في شهور الاضطراب والثورات التي تلت هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، وسقوط القيصرية، وشيوع الفوضى والصراع على مستقبل المجتمعات والدول.. لذلك فالسوسيولوجي ماكس فيبر، إصلاحاً لهذا الوضع واستشرافاً للمستقبل القريب والبعيد، أخبر بأن السياسي عليه أن يتمتع بثلاث صفات محددة، وإلا فالفساد السياسي سيكون هو القاعدة في حلبة الصراع السياسي: الشغف والشعور بالمسؤولية وبعد النظر.
ولا يظنن ظان أن الدول الغربية تعيش داخل مجال سياسي عام صاف من كل بذور التسلط والفساد. فلو ولجت أسرار السياسة والاقتصاد لبلدان مثل الولايات المتحدة، لوجدت العديد من أنواع الكذب والتضليل والفساد داخلها، وهي التي لم تتجاهلها شركات إنتاج المسلسلات الهوليودية وغيرها عندما تسلط من خلالها الأضواء على عالم السياسة الصعب من خلال تعدد الفاعلين فيه، وموازين القوى التي تتحكم فيه، وأن ما يقال عن «الطهارة السياسية الديمقراطية الغربية» مجرد أوهام، وأن ما يدور وراء الستار من قضايا فساد وابتزاز وارتشاء واستغلال للنفوذ ودخول في مفاوضات غير سليمة للوصول إلى كراسي الحكم.. هي من الأمور المألوفة هناك. 
وعلى رأس قائمة هذه المسلسلات التي تخوض في عالم السياسة هناك مسلسل «بيت الأوراق» House of Cards الشهير، والذي بلغ العالمية، ليس فقط لأنه غاص في أعماق السياسة الداخلية الأميركية وأبرز ما يدور في أروقة وصالات الكونغرس والبيت الأبيض، وإنما أيضاً بسبب الأداء التمثيلي الخاص للممثلين الذين كشفوا جانباً من الحياة السياسية، الشخصية والرسمية، لرجال السياسة الأميركيين وعائلاتهم. وحُظي هذا المسلسل، خلال أجزائه الخمسة الأولى، بقبول جماهيري عالٍ جداً، بعد استعراضه للعمل السياسي وحركة المصالح والضغوطات التي تمارس في الولايات المتحدة.
ونجح بطل المسلسل، كيفن سبيسي، في تجسيد دور فرانك أندروود، والذي ظهر في كثير من الأحيان كرجل ودود، بينما هو قاتل ومدلس، ويعتبر الابتزاز السياسي أقوى سلاح يَجهَز به على خصومه. وقد بدأت حياة الرجل كعضو في الحزب الديموقراطي وممثل له في مجلس النواب، وانتهت إلى توليه رئاسة الولايات المُتحدة، وما بين المحطتين من طرق ملتوية خاضها للوصول إلى هدفه. ويُقدّم لنا أيضاً المسلسل كلاير أندروود، وهي زوجته التي تُشاركه حلم الوصول في السلطة، حيث يتجردان من كل القواعد المستقيمة للوصول إلى البيت الأبيض. وشخصيتا فرانك وكلاير ليستا جديدتين تماماً في الأوساط الدرامية، فمنذ أربعمئة عام قدم شكسبير في شخصيتي ريتشارد الثالث والليدي ماكبث مثيلين لهما.
لكن ما لبثت التطورات أن كشفت عن فضيحة مدوية، وهذه المرة في الواقع، تسبب بها كيفن سبيسي واتهم خلالها بالتحرش والاعتداء الجنسي، وأدى ذلك إلى إقصائه من العمل رغم بدء شركة الإنتاج في التحضير للجزء السادس، وانتهى دور سبيسي كفرانك أندروود. 
جسد المسلسل وخروج البطل منه واقعاً كتبت عنه كتب عديدة نُشرت في أعرق دور النشر العالمية، تشير إلى تلوث عالم السياسة داخل المجتمعات الغربية، وأن ما يدور في كواليسها معقد ولا ينجح فيها أحياناً إلا مَن أجاد السير داخل السبل الملتوية وبدون أية مبادئ ديمقراطية كما تدرس في مادة علوم السياسة النظرية.