ليبزغ الليل مفتوناً بعتمته، لن أشعل قنديلاً أو مصباحاً يلصًّ  على حلكته البهيجة، وليمشط الأشعة الأخيرة فوق ذؤابات النخيل التي ترقد هانئة في رعشتها الأثيرة، وليرفو المساء خصلة الحزن المؤرجحة بين الغصون، ويقع البلح اليابس على أعناقه قبل النضوج، وتنتفض العذوق من أسى الجفاف قبل موعد الصيف، وليهدأ البحر ويشرب ملحه ويبتلع صليل الأصداف والقواقع، وليأت لنا بما عودنا عليه من فتنة الأزرق، ولترحل الأهوال والجوائح في غيبها، كي يضحك المرجان لدعابة الأسماك التي خبأت في أجسادها ما نراه من فتنة ألوانها.
ولتبقى زهرات الأرجوان معلقة من أعناقها كأجراس السكون حتى الذبول، فلا مطر يهمي عليها ليوقظ فتنتها، وليبتلع الصبار أشواكه، وتجف أزهاره وتتناثر في الهباء، ولتبتهج وريقات الفل والياسمين على أغصانها حين أرش عليها رذاذ الماء، ولتبق موازين الحياة متأرجحة بين العدالة والغياب، ولتحط الببغاءات وتلقط البذار من نباتات الشمس التي زرعتها ضيافة لها، ولتأتي الطيور والبلابل وتبني أعشاشها على أشجار مسكني، ولتحنو العصافير على صغارها وتلقمهم ثمار التوت حين ينضج في ربيع الأمل، ولتأت السحب كي يختبئ الماء في الصنابير، وليذهب الحلم إلى الأقاصي وتهدأ السكينة في الأرواح، ولتحرس شجرة التمر الهندي سور البيت ويتسلق اللبلاب جدرانه.
ولترتطم البعوضة البلهاء في يأسها الأخير، ولتلغط الجنادب في سكينة المرقاب، ولترقد الجدات على أحلامهن القديمة وتنسجن آمالهن من الذكريات، لتسترح شجيرات الجوزالمرسومة في الشراف فلن أمحوها، وليلهو الأطفال فوق شواطئ البحر ويلتقطون القواقع دون أقنعة ورعب، ولتنفلق الأصص من سطوة الجذور، ولتغفو زهرات القرنفل والفل في المساء، وحين تتفتح في بهجة الصباح سأقطفها وأنثرها على أغطية الأسرة، ليداعب الضحى فتنة البنفسج والياسمين، وتنوس مزهوة في الأعالي.
لينمو زغب النضوج الحلو على شفة الأطفال، ويصطادوا بشباك فتنتهم ضوء الضحى، ويراوغوا طيش الفراشة وغبطة الأحلام في مدارج الفصول، ولتهطل أمطار السلامة مزناً على صبا الفتيات ليضفرن جدائلهن الجميلة بالذهب المعلق في الغروب، وفضة الشروق. وليضحك التفاح حين يمضغنه، وينوس بهن الأمل بين الجوائح والسلامة، وليذهب التلاميذ إلى مدارسهم كأسراب البطاريق محملين بحقائبهم، ولتبق دفاترهم الصغيرة ترقى بوعيهم على مدارج السنين!ها أنا أجلس هادئة بين سطوة الخوف وإشراقة الأمل، أرقب كل ما حولي من مخبئي في المرقاب، كما ترقب السلحفاة الحكيمة نسلها وتخبئهم في حكمة المحيط، وأمزج الطين بأوراق الشجر التي جففها اليباس، لأخصب التربة وأزرع النعناع والزعتر، وأرقب الليل والفجر الشفيف، وأعدُّ على أصابعي استدارات الأيام والليالي والسنين!.