الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

بالوعة الكعوب المكسورة

لوحة للفنان فلاديمير كوش (أرشيفية)
21 يناير 2021 00:07

زاهرة محمد

هل حدث وسقطت يوماً؟ هذا ما حدث لي، لكنه كان أغرب سقوطٍ في التاريخ، أو في تاريخي الشخصي تحديداً. وأكادُ أقسمُ لو عاد إنشتاين اليوم، لأعاد النظر في فلسفة أرقامه ومعادلاته ليكتشف أي زاوية ملعونة تلك التي تجعلُ امرأةً تمشي بكل هدوءٍ ورزانةٍ على الرصيف تسقط في بالوعة تظهر من العدم.
لم أسقط أنا، كان ذلك الكعب المغرور الذي تباهيت به كثيراً لأنه (ماركة) الذي أطاح بي، وأنت تتوسلني أن أرتديه في كل مرة ألتقيكَ فيها. لم يكن يشبه طقوسي أو طريقتي في المشي، أو حتى طيشي ولا مقاس قدمي أيضاً.
سقط عنوةً وكأنه كان يبحث عن شيءٍ هناك! 
لحقته بسذاجةٍ وسقطتُ بعده! 

كل ما أذكره وقتها قضبان السجن المستلقية على أفق الهاوية، فحين تسقط يصبح كل شيء مظلماً وتتعلق عيناك بالضوء الوحيد خلف أسوار البالوعة..
هناك يقطن عالم مختلف: فئران، حشرات، قوارض، روائح نتنة.
تابعت الغوص أبحث عن ذلك الكعب المشؤوم، لا أعرف كيف أقحمت نفسي في هذا المكان، ماذا حدث وكيف وصلت هنا؟! 
لو أنني خلعت الفردة الأخرى ورميتها ومشيت حافية، ألم أكن الآن على شاطئ البحر أتنفس هواءً نظيفاً بدل المستنقع الآسن الذي انتهى بي المطاف إليه؟!
تعثرت وأنا أعرجُ بين المياه والقاذورات ومخلفات البشر ومفقوداتهم التي تركت عليها بصماتهم وبعض من أجزائهم، كمشط التقيته وأنا أهرول مذعورةً من فأر ضخم كان غارقاً بالحزن، فسحبني معه إلى الأسفل.. اختنقت ساعتها وظننت أنها النهاية، لكني شكرته حين اكتشفت أنني أستطيع أن أتنفس تحت الماء! 
في هذا المكان من العالم تستطيع أن تكون أي شيء وكل شيء، كأن تتحول من آدمي إلى قطعة بلاستيك أو خشبة مركونة في زاوية ما! تمر بجميع الأشياء دون أن تشعر بها أخبرني صديقي الجديد (المشط) أنه قد تم نفيه إلى أقرب بالوعة بعد أن توفيت صاحبته بمرض الحسرة مراريّاً، ماذا عن زوجها؟ سألته بمشاعري البلاستيكية وفمي الذي اكتحل بالصدأ.
مال بعنقه وكأنه يهب للتيار ما تبقى منه وهمس بأعلى صمته وهو يغرق: 
-استبدلني بمشط آخر، لكل شيء تاريخ انتهاء صلاحية.
لكل شيء تاريخ انتهاء صلاحية...
ظل يكرر جملته الأخيرة تلك حتى شَرِقَ بآخر رمق من ريقه، وطفت خصلة شعر وحيدة لم تمت بعد، بل إنها كانت تغني بصوت عذب جميل، أعتقد أنها الوحيدة الحية في تلك العتمة.
العالم هنا نسخة مصغرة من عالمنا لكن دون أقنعة وعطور وملابس فخمة وشاشات إلكترونية، حاولت أن أختلس النظر من وراء القضبان لأعرف الوقت لكني الآن أصبحت بعيدة جدًّا، حتى إني لم أعد أألف طريقاً للعودة، التفت يميناً ويساراً، الناس أقصد الأشياء بل الصفات، الوجوه، الهياكل، الإشارات...
كل شيء هنا يشبه ما على السطح خلف القضبان، وكأنك تضع العالم كله تحت العدسة المكبرة وتغوص في التفاصيل، وكأن العتمة تلك تهبك عيوناً إضافية لترى بها بوضوح كل شيء..
أخذني التعب فغفوت، كنت مختنقة وخائفة ويائسة لاشيء يمكنه إنقاذي من تلك اللحظة سوى الهروب إلى النوم، علّني أكتشف أن كل هذا كان كابوساً ليس إلا.
توسدت بقايا مخدة لم يبقَ منها سوى قماش مهترئ وقطن تلطخ بالطين والأحلام العالقة، حاولت أن أستخدم تلك المخدة لكنها كانت مهترئة لا تصلح لشيء.. فلففت القماش لكرتين صغيرتين، وأغلقت بهما أذنيَّ.
في هذه البالوعة أفضل ما يمكنك فعله هو أن تغلق أذنيك وفعلاً غفوت لحظتها مباشرة، رغم أن الضجة التي سمعتها داخل رأسي كانت أعلى من الأصوات خارجه.
اقتربت مني امرأة بشعر أسود طويل، أخذت بيدي تحاول أن تجرني، استيقظت فزعاً، كانت قد سحبتني من تيار كاد أن يجرفني للهلاك، كنت مصدومة لا أستوعب شيئاً سوى شفتيها اللتين تتحركان دون أن أفهم حرفاً منهما، تذكرت اللفافتين القماشيتين اللتين حشوت بهما أذنيّ، أزلتهما وإذا بها تصرخ! مجنونه أنت؟! كاد غضبه أن يقتلك.
- لا أفهم عم تتحدثين! من هو؟ كنت نائمة فقط، وأنا هنا لأجد كعبي لأخرج فقط من هذا الجحيم! أين أنا؟ أخذت بيدي برفق رغم ملامحها القاسية، لكنني شعرت أنها مثلي تشبهني في هذا المستنقع، إحدى ضحايا الغرق والعتمة ليس إلا! 
- كيف وصلت إلى هنا؟ أخبرتها قصة الكعب، لكنها لم تقتنع لكننا واصلنا السير.
- ستأتي ساعة خلاصك!
- متى؟ 
- حين تقررين التخلي عن الفردة الأخرى في قدمك.
لم أعرف لحظتها هل أضحك أم أبكي.
نظرت إلى مرآة مهشمة كنت قد دست عليها بكعبي الآخر.
رأيت خطوطاً قد ارتسمت حول عنقي وفمي وعيوني، وضعت يدي على قلبي:
- كم من الوقت وأنا هنا؟ 
- منذ ارتديت ذلك الحذاء الذي لا يشبهك! 
- لكن كيف أخرج الآن؟ وكم تبقى لي من الوقت؟ أخرجت من جيبها سيجارة وقالت لي:
- أما الآن فاسترخي ودخني!
-أدخن؟ كيف وأنا أريد أن أهرب من كل هذا؟ 
- دخني فقط! اسحبي نفساً عميقاً، نفساً تلو آخر، تشبعي بالدخان...
وكمن يتشبث بقشة تمسكت بتلك السيجارة ودخنت طويلاً، حتى كدت أجزم أن سنوات أخرى مضت وأنا أتفرج على الكثير من الكعوب التي تمر من أمامي ولا أبالي.
لحظتها حدث ما لم يكن بالحسبان، بسعلة قوية من أحدهم كنت أجلس في موعدي في ذاك المخبأ السري الذي طالما جمعني به.
نظر إلى حذائي الذي شاخ، وطعم الدخان يملأ شفتيّ ورئتيّ وهو يسعل بقوة يكاد يختنق بها، وتلك المرأة الغريبة التي أنقذتني دخلت علينا وعرفني بها بأنها صديقة قديمة، نظرت إليها وإذا بكعبها مكسور أيضاً! 
بقينا هكذا نتأمل وجوه بعضنا بعضاً، هو يسعل وأنا أتلاشى دخاناً وهي تعرج بكعبها المكسور.
كل ما خطر ببالي لحظتها:
يا ترى أي بالوعة أكبر؟!

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©