يحجب الموقف الصعب، الذي وضع الرئيس الأميركي الذي تنتهي ولايته اليوم دونالد ترامب نفسه فيه منذ اقتحام بعض أنصاره مبنى الكونغرس، صعوبات كبيرة تواجه الرئيس الجديد جو بايدن، أو بالأحرى تأخذ الانتباه بعيداً عنها بشكل مؤقت.
سيكون في إمكان ترامب، رغم صعوبة موقفه، أن يمارس معارضةً قويةً يُرجح أن تُزعج بايدن وإدارته. ولن يحول ابتعاد بعض قادة الحزب الجمهوري (وربما كثير منهم) عنه دون بقاء غير قليل من أعضاء الحزب معه، فضلاً عن غير الحزبيين الذين يُعَدُّون المكوِّن الأساسي في قاعدته الشعبية. كما يرجح أن يجد بدائل عن مواقع التواصل الاجتماعي التي أوقفت حساباته إذا واصلت الانحياز إلى خصومه.
وستُشكِّل معارضة ترامب عبئاً كبيراً إضافياً يجعل بايدن وإدارته في حاجة شديدة إلى مساندة قوية من الحزب الديمقراطي. ولكي تتوفر هذه المساندة، لابد أن يكون الحزب موحداً، أو يوجد على الأقل توافق عام أو توازن في داخله. ولا يكفي أن يحظى بايدن بمساندة الاتجاه الوسطي أو المعتدل رغم أنه الأكبر في حزبه، إذا كان الاتجاه اليساري غير راض أو يسوده شعور بالاستبعاد أو التهميش.
ويبدو أن بايدن لا يعطي اهتماماً كافياً حتى الآن للمحافظة على قدر معقول من التوافق داخل الحزب الديمقراطي، ويغامر بفقد مساندة قطاعات من الاتجاه اليساري الذي بدأ بعض رموزه وقواعده في التعبير عن استياء من ترشيحات أعلنها لشغل مناصب أساسية في إدارته. وفضلاً عن أن يساريي الحزب الديمقراطي لا يجدون مَن يعبر عن مواقفهم في ترشيحات بايدن لهذه المناصب حتى الآن، تُثير بعض هذه الترشيحات قلقاً في أوساطهم. الأمر الذي يدفع بعضهم إلى نقل الخلاف مع الرئيس الذي ساندوه بقوة في الانتخابات إلى العلن.
ومن أبرز المرشحين الذين يتعرض بايدن إلى نيران صديقة من داخل حزبه بسبب ترشيحهم، «نيرا تاندين» المرشحة لمنصب مدير مكتب الإدارة والميزانية في البيت الأبيض OWB، لأن انحيازاتها السياسية والفكرية تضعها في تعارض مع اتجاه أساسي في أوساط يسار هذا الحزب، خاصةً أنصار السناتور بيرني ساندرز.
وغذت هذا التعارض مواقف علنية اتخذتها تاندين ضد توجهات اليسار في الحزب الديمقراطي، وحملت في طياتها سخرية ضمنية منها. ولعل ما يزيد استياء معارضي ترشيح تاندين اعتقادهم بأن اتجاهاتها بشأن مسألة العدالة الاجتماعية لا تنسجم مع بعض وعود بايدن الانتخابية التي أيَّدوه على أساسها، خاصةً التوسع في برامج الضمان الاجتماعي. ورغم أن منصب تاندين ليس من بين المناصب الأعلى في الإدارة الأميركية، فإن أهميته تزداد عند وجود كساد أو ركود اقتصادي شديد كما هو الحال الآن، لأنها ستكون، حال موافقة مجلس الشيوخ على تنصيبها، مسؤولةً عن وضع خطة الإنفاق الفيدرالي السنوي. وتكتسب الخطة القادمة أهمية غير عادية بالنظر إلى تداعيات جائحة كورونا الاقتصادية والاجتماعية.
كما يثير ترشيح أنتوني بلينكن وزيراً للخارجية قلقاً في أوساط يساريي الحزب الديمقراطي، إذ يأخذون عليه تأييده التدخل العسكري الأميركي الذي يدعون إلى تقليصه. كما يتخوفون من علاقة بلينكن السابقة مع شركة «ويست إليكتريك أدفايز» التي تعمل في مساعدة شركات أسلحة على تسويق منتجاتها لدى الإدارة الأميركية، خاصةً أن الجنرال لويد أوستن الذي رشّحه بايدن لمنصب وزير الدفاع كان رئيس صندوق استثماري لهذه الشركة. والمفارقة أن قطاعات من الحزب الجمهوري، واليمين الأميركي بوجه عام، تتفق ضمناً مع مخاوف يسار الحز الديمقراطي من ترشيح بلينكن وأوستن على أساس أن وجودهما في وزارتي الخارجية والدفاع سيؤدي إلى تعارض في المصالح.
ولعل ما يُزيد استياء تيار اليسار شعور في أوساطه بنكران الجميل. فقد قام شباب هذا التيار بحملات طرق أبواب مكثفة لتشجيع أعداد كبيرة من الأقليات على التسجيل في قوائم الناخبين. توجد شواهد على أن بايدن فاز في ولايات متأرجحة بفضل أصواتهم، خاصةً ولايتي ميتشجان وبنسلفانيا.
وربما يدفع بايدن ثمناً لما يبدو أنه تجاهل لتيار مهم رغم صِغره داخل حزبه، وإذا لم يتدارك النيران الصديقة التي بدأت، فقد يغامر بفقد وحدة كُتلتي حزبه، في الوقت الذي تشتد حاجته إلى دعمهما معاً في مرحلة ربما تكون الأصعب في تاريخ الولايات المتحدة منذ ستينيات القرن الماضي.