في صفحات تاريخ الولايات المتحدة سُجلت حادثة اقتحام الكونجرس بأنها تَختزل الخطر المحدق بالديموقراطية الأميركية وتماسك الأمة، فهي تتجاوز في خطورتها فضيحة ووترجيت. وعند المقارنة بين الحادثتين نكتشف حقيقة الدوافع، وماهية الآليات المستخدمة، وإلى أي مدى أصبح التنافس بين الحزبين إطارًا للصراع بين فئات الشعب الأميركي. دوافع «ووترجيت» كانت نابعة من تخوف ريتشارد نيكسون من انتخابات 1972، وهو الذي فاز بصعوبة في انتخابات 1968، وسبق أن خسر انتخابات 1960 أمام جون كنيدي رغم شهرته كنائب للرئيس أيزنهاور، ناهيك عن أنه ورث الحرب الفيتنامية التي أحدثت انقساماً في الأمة الأميركية، الأمر الذي دفعهُ إلى التورط في عملية التنصت على اللجنة الوطنية للحزب «الديمقراطي» في مبنى «ووترجيت». ومن الغرابة أن يتورط نيكسون في هذه العملية التي ربطت كل فضيحة سياسية بعدها بكلمة «ووترجيت»، وهو الذي كان محامياً، ومدعياً ضد شخصية متهمة بالتجسس لصالح الاتحاد السوفييتي، وهذه القضية هي التي أدخلته عالم السياسة. وبعد فوزهِ في انتخابات 1972 بفارق كبير، لم يجد حلاً في قضية التورط سوى الاستقالة في عام 1974، وترك الرئاسة لنائبهِ جيرالد فورد، الذي أصدر عفوًا عنه في تلك الحادثة.
وبينما كانت «ووترجيت» عملية ماديةً مرتبطة بفريق عمل قام بزرع أجهزة التنصت، فإن حادثة اقتحام الكونجرس معنوية أتت بزرع كلمات وجمل محركة للفئة الشعبوية البيضاء واليمين المتطرف. أجل أهم أسباب اقتحام الكونجرس هي اللغة الخطابية للرئيس الأميركي ترامب، وخاصةً بعد خسارتهِ في الانتخابات 2020، فهي دائماً ما تحتوي على كلمات تدور حول المؤامرة والحجم الكبير للأصوات، الذي نالهُ في الانتخابات، وليس غريباً أن تَحجب وسائل التواصل الاجتماعي تعليقهُ على عملية الاقتحام، لأنه وإنْ طالبَ جمهورَه بالعودة إلى بيوتهم، إلا أنهُ طعن في نزاهة الانتخابات مجددًا.
وقد مثلت كلمات ترامب أجهزة تُحرك وتوقظ مخاوف ومشاعر الكثير من الشعبويين البيض بشأن مستقبل نمط حياتهم الخاص ومطالبهم، فهناك فئة كبيرة تؤمن بأن الولايات المتحدة في خطر بسبب الأغنياء وبروز الأميركيين غير البيض في السلطة. ولابد أن نشير إلى أن مستوى المعرفة لدى شريحة كبيرة من الشعبويين خاصة والأميركيين عامة تفتقر إلى الإدراك الصحيح لماهية نظامهم السياسي، وما هي الفروق بين الحزبين، وماهي الحدود بين الحكومة الفيدرالية وحكومات الولايات من خلال السياسات العامة المرتبطة بالميزانيات والضرائب والصلاحيات.
وحادثة اقتحام الكونجرس في يوم التصديق على نتائج المجمع الانتخابي، والتي تسببت بأضرار مادية كبيرة مع بعض الجرحى والقتلى واستقالات من حكومة ترامب، تتجاوز التنافس بين الحزبين إلى تأكيد وجود انقسام كبير وخطير في الأمة الأميركية عبر الجماعات اليمينية المتطرفة البيضاء. ورغم كل ذلك، فإن تصديق الكونجرس على نتائج وتصويت المجمع الانتخابي عشية الاقتحام يعتبر تأكيدًا على الديمقراطية، ويفتح هذا التصديق مجالاً لإيجاد سياسات على المستوى الفيدرالي والكونفدرالي في فترة إدارة بايدن لإعادة لحمة الأمة، وذلك لن يكون إلا بمراجعة وتنفيذ متطلبات مختلف فئات الشعب، مع أهمية جعل الإعلام يراجع الصورة المتحيزة المنقوصة المنشورة والمذاعة والتي تشجع على الانقسام، حيث تكون الحقيقة في الغالب غير كاملة أو مبتورة تحكمها الميول الحزبية والعرقية على حساب الأمة الأميركية.
*كاتب ومحلل سياسي