منذ ظهور فيروس «كوفيد-19» في بدايات عام 2020، احتلّ المرض المرتبة الأولى تقريباً على جدول الأولويات في دولة الإمارات العربية المتحدة، وفي معظم دول العالم، بسبب شراسته في حصد الأرواح، وتأثيراته السياسية والاقتصادية والاجتماعية العميقة التي لم ينجُ منها بلد واحد في العالم تقريباً. وكان الموضوع الذي ألحّ على البشرية بأسرها، وكرَّست من أجله الدول والجامعات والمؤسسات الصحية والجهات البحثية جهودها، بشكل غير مسبوق تقريباً، هو البحث عن دواء ناجع للمرض، وإيجاد لقاح يوقِف انتشاره ويحدُّ من أخطاره، ويتيح للبشر استعادة حياتهم الطبيعية.
والآن، وقد أصبحت اللقاحات متاحة بعد طول ترقّب وانتظار، في دولة الإمارات وفي غيرها من دول العالم، فإن تلقيه لم يعُد مجرد وسيلة لحماية الشخص ذاته، بل لحماية الأهل والمقرّبين والمخالطين والمجتمع بأسره من التبعات المؤلمة التي تترتب على تفشي المرض، ومن ثم فإنه أصبح التزاماً أخلاقياً وإنسانياً تحثّ عليه النُّظم المجتمعية والضمير الحي قبل كل شيء. فاللقاح هو السبيل إلى تخلّص دولة الإمارات ودول العالم من خطر كورونا الجاثم، ولا سيما مع التطورات الأخيرة التي أظهرت قدرة الفيروس على التحوُّر وإنتاج سلالات جديدة أسرع انتشاراً. والتأخر في تلقّي اللقاح يعني أن الشخص يختار بإرادته أن يكون تهديداً لأرواح آخرين، ربما يكون من بينهم أهله الأقربون، برغم قدرته التامة على أن يُجنّبهم هذا الخطر المُحدق.
ولقد بادر مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي إلى إصدار فتوى تعكس هذه المضامين، جاء فيها أن تلقّي اللقاح يأتي «إعمالاً لمقاصد الشريعة المتعلقة بحفظ النفس البشرية». وأضاف المجلس موضحاً الأساس الشرعي للفتوى بقوله: إن «الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة الخاصة، حيث إن هذا المرض قد اختصَّ عن كثير من الأمراض بما اتّصفَ به من سرعة الانتشار والعدوى، وما ألحقه من أضرار ومفاسد عظيمة بالأرواح والأموال وسائر منافع النَّاس، فإن لم يكن التداوي بهذا اللقاح ضرورة في حقّ كل أحد، فإنه حاجة عامة في حق الخلق كافة». وكان هذا هو الموقف ذاته الذي اتخذته مجالس الإفتاء في دول شقيقة، مثل المملكة العربية السعودية، وجمهورية مصر العربية.
لقد جاءت إجازة اللقاحات في دولة الإمارات بعد إجراءات دقيقة ومتأنّية من جانب الجهات الصحية المسؤولة لاتخاذ هذه الخطوة. وعلى المستوى العالمي، فإن إجازة اللقاحات للاستخدام البشري لا تأتي إلا بعد مراحل متتالية من الاختبارات الدقيقة، والموافقات المشروطة بضوابط لا تسمح على الإطلاق بالمخاطرة بحياة الناس، أو قبول أي تأثير سلبي في صحتهم. ومن جهة ثانية، فإن أي شركة أو مؤسسة صحية لا يمكنها المخاطرة بإتاحة اللقاح للتداول من دون أن تكون على ثقة تامّة بأنه لا يسبّب أي ضرر، لأنها بذلك تعرّض نفسها للانهيار والتدمير، بل إن سمعة الدول التي تتبعها هذه الشركات، ستتلقّى ضربات هائلة يصعب التعافي منها، ولا سيما في حالة «كوفيد-19» بكل ما يحيط بها من اهتمام عالمي، وتسليط غير مسبوق للضوء على أدقّ التفاصيل.
إن هذه الدعوة موجّهة أساساً إلى كل من يقيم على أرض دولة الإمارات، التي قدَّمت نموذجاً ناجحاً في التعامل مع الوباء واحتواء آثاره، لكن هذه الدعوة عالميّة أيضاً، فلقد بدأ المرض انتشاره من مدينة واحدة في الصين، ثم غزا كل مكان في العالم في غضون أسابيع قليلة. ويجب أن تُبذل جهود عالمية سريعة ومُكثفة لإزالة ما يعترض هذا الهدف من عقبات، ومعالجة كل أشكال القلق التي تتسبّب فيها شائعات وأخبار مغلوطة تعتمد على استنفار غريزة الخوف لدى الناس لتُخفي عن أعينهم الحقائق العلمية، وتعطّل لديهم التفكير المنطقي، مستفيدةً من فوضى وسائل التواصل الإعلامي، وضخامة أعداد وسائل الإعلام الرديئة، التي تجافي المصداقية والموثوقية، بحثاً عن الإثارة والانتشار غير الأخلاقي.
عن نشرة "أخبار الساعة" الصادرة عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية