بدأ العراق يحاول التقاط أنفاسه بعد عناءٍ ومشقة، سعياً إلى لملمة جراحه الغائرة، وما أن أخذت حكومته الحالية تحاول النهوض، حتى تعثرت بالميليشيات المنفلتة. ويجد رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي فرصته الآن لكسر حاجز الصوت الإيراني، ولتثبيت استقلالية القرار العراقي، خاصةً في هذه المرحلة التي يصعب فيها على طهران تحمّل مزيد من العزلة الدولية قبيل تسلّم الرئيس الأميركي مهام منصبه الجديد. 
والأرجح أن النظام الإيراني في الوقت الحالي يتجنب أي تحرك خاطئ قد يكلفه كثيراً وربما يؤدي لإسقاطه، في ظل الغضب الشعبي المتنامي. وفي ضوء الحرب الكلامية القائمة، خفّفت إيران لهجتها وتوقفت عن تهديداتها بالانتقام، ما لم تخرج القوات الأميركية من المنطقة!
وظل القرار العراقي حول الهوية العراقية موضع جدل بين الكتل السياسية والميليشيات والفصائل ذات السطوة، خاصة منها التابعة لإيران. لكن الرؤية السياسية للكاظمي تتسم بالبرغماتية. وقد تعزز موقفه بالمظاهرات الشعبية، وأصبح أكثر جرأةً على ترسيخ استقلالية القرار العراقي وعلى وقف تفكك الوضع الداخلي الذي تريد بعض الميليشيات أن ترهنه لحساب طهران. وكما يشير كيسنجر، فإنه «حين تتفكك الدول وتنهار سلطتها، تصبح ساحةً للتنافس بين القوى المحيطة، والتي عادة ما تريد المحافظة على قوتها وسطوتها دون مراعاة لكرامة الإنسان».
وقد احتشد أنصار ميليشيات «الحشد الشعبي» وباقي الفصائل، الأحد الماضي (3 يناير)، في ذكرى مقتل قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، بالتزامن مع تصاعد التوتر بين إيران وأميركا، فيما تتهم واشنطن مسلحين مدعومين من طهران بشن هجمات صاروخية على المنشآت الأميركية في العراق، منها هجمات بالقرب من السفارة الأميركية في بغداد. وهو تصعيد قابله الأميركيون برفع الجهوزية العسكرية، مع تلويح غير مباشر بتوجيه ضربة عسكرية ضد أهداف إيرانية. 
لقد سئم الشارع العراقي الطائفيةَ والمحاصصةَ المذهبيةَ، وهو يرفض تحويل البلاد إلى مناطق لاقتسام النفوذ بين أميركا وإيران. واستمرار التظاهرات في شوارع بغداد للمطالبة برحيل الفاسدين، يؤكد أن العراقيين مصرون على ترسيخ هويتهم العربية وإنهاء النفوذ الإيراني في العراق وتركه لشعبه.
كل الكتل السياسية العراقية وافقت على منح الكاظمي التفويض والصلاحية الكافية لإعادة فرض «هيبة الدولة»، ولتحقيق الأمن والاستقرار.. وهو الحلم المفتقد منذ 17 عاماً أو يزيد. ويُفترض بالكتل السياسية أن لا تتراجع عن دعم الكاظمي في أي ظرف، خاصة أن المجتمع الدولي يسانده، وإلا فقدَ العراقُ آخر فرصة لفرض سيادته. 
ويبدو أن صبر الحكومة العراقية نفد أمام تصرفات المجاميع التابعة لإيران، والتي وصلت انتهاكاتها مستوى مستفزاً. وفي حال وقوع صدامات مع الحكومة، فستكون إيران أول الخاسرين فيها. 
وقد هددت واشنطن بإغلاق سفارتها في بغداد ونقلها إلى أربيل في ظلّ استهداف المصالح الأميركية في العراق، وجاء قرار الإدارة الأميركية خفض قواتها في العراق إلى نحو ثلاثة آلاف جندي كوسيلة للضغط على حكومة الكاظمي لكبح الفصائل المدعومة من إيران. 
هناك مسؤولية سياسية وقومية تقع على «دول مجلس التعاون + مصر» تجاه الوقوف مع العراق، سياسياً واقتصادياً. والفرصة متاحة الآن للعرب كي يحققوا ما خسروه بعد سقوط نظام صدام حسين وتسليم الإدارة الأميركية الحكمَ للمعارضة العراقية التي بدورها سلمته لإيران.
العراق بلاد ما بين النهرين وأول مستوطنة بشرية ومهد الحضارات الإنسانية ومكمن أحد أكبر احتياطيات النفط.. يحق لشعبه أن يتمتع بالأمن والاستقرار وأن يستفيد من خيرات وطنه، وأن يستعيد دوره المحوري، عربياً وإقليمياً ودولياً.