بعد عشر سنوات على الانتفاضة التي أطاحت بالرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، يرى اتجاه واسع من الشارع التونسي أن المكاسب الديمقراطية التي حققتها «الثورة» أصبحت في حالة خطر حقيقي لانفصامها الحاد مع المطالب الاجتماعية في مناخ من الانهيار الاقتصادي الكامل، وتحلل المؤسسات العمومية، وتآكل الطبقة الوسطى التي كانت في السابق الخصوصية الكبرى للمجتمع التونسي، عندما كانت قوية وواسعة وفاعلة.
والسؤال الذي أصبح مطروحاً بقوة في الساحة التونسية هو: هل لا يزال المطلب الديمقراطي قوة دافعة للعمل السياسي؟ وكيف يمكن النظر إلى حصيلته العملية من حيث مقوماته الليبرالية في مواجهة صعود التيارات الراديكالية المتعصبة، ومن حيث مقوماته الاجتماعية في مواجهة ما أشرنا إليه من أزمة اقتصادية اجتماعية حادة؟
قد لا تكون الحالة التونسية استثناءً في وضع دولي يشهد ما عبّر عنه المفكر السياسي الأميركي «يوشع مونك» بتصادم الديمقراطية والليبرالية في الأنظمة الديمقراطية العريقة. بل إن «مونك» يذهب إلى أن الفكرة الديمقراطية تعرف الآن تراجعاً ملموساً في سياقها الغربي، يرجعه إلى عوامل ثلاثة كبرى هي: تباطؤ مؤشرات الصعود الاجتماعي وتحسن ظروف العيش بعد عقود من الطفرة التنموية الشاملة استفادت منها طبقات واسعة من المجتمع، والانتقال من الهويات القومية المتجانسة إلى مجتمعات التنوع الثقافي المتولدة عن حركية الهجرة واللجوء السياسي، وتأثير التقنيات التواصلية الجديدة (الإنترنت والشبكات الاجتماعية) التي قلبت نمط التواصل المركزي وأدت إلى تراجع دور النخب في توجيه وقيادة المجتمعات.
ومن هنا، فإن الصراع المحتدم حالياً في الساحة الغربية يتمحور حول الاتجاهات الشعبوية غير الليبرالية المستفيدة من حالة الخوف والقلق من الآثار السلبية للانفتاح الليبرالي على الهويات والتوازنات القومية والاتجاهات الليبرالية التي تخلت عن فكرة الأمة القومية لصالح المفاهيم الكونية الجديدة للرابطة الإنسانية المشتركة.
ليس هذا الإشكال مطروحاً في الساحة السياسية العربية التي أفضت فيها التحولات السياسية إلى معادلة مغايرة تتركز في النقاش حول طبيعة المجموعة السياسية نفسها، في سياق يشهد انتكاسة الهويات الوطنية المندمجة وصعود الهويات الطائفية والعرقية والقبلية المستفيدة من عملية الانفتاح الديمقراطي.
وفي بلدان كلبنان والعراق أصبح منطق التمثيل السياسي أداة لضبط وإدارة صراعات الاعتراف والهيمنة والتوازن بين قوى تحتكر التعبير عن الانتماءات الطائفية، بما يتعارض مع مبدأ الارتباط العضوي بين الإرادة الانتخابية والوعي الفردي الحر، الذي هو منبع المنظومة الليبرالية الديمقراطية.
وفي بلدان آخران كاليمن وليبيا، برزت اتجاهات مدعومة من الخارج لتحوّل التنظيمات السياسية إلى مجموعات مسلحة، بحيث يفقد العمل السياسي الحر دلالته لغياب الشرط الأول والأساسي للمنظور الديمقراطي، وهو السلم الأهلي الذي هو مدار شرعية الدولة الوطنية وضمانه هو وظيفتها المحورية.
وهكذا، يصبح السؤال هو: كيف يمكن التفكير في ممارسةٍ ديمقراطية حقيقية في غياب هوية وطنية مندمجة ومنفتحة تكفل حرية الإرادة والوعي والاختيار؟
وإذا كانت الأيديولوجيات الأحادية المغلقة قد حاربت في الماضي التعدديةَ الديمقراطيةَ بذريعة حماية النسيج الأهلي والدفاع عن تماسكه وانسجامه، فإن ما يبدو في أيامنا في ساحات عديدة انفتاحاً ديمقراطياً، هو في غالب الأحيان تمويه للحالة التسلطية الجديدة التي تستغل آليات التنظيم والانتخاب في استراتيجيات الهيمنة والتحكم.
لا بد هنا من التنويه بالجيل التنويري المؤسس للفكرة القومية العربية في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، الذي وقف ضد النزعات الوطنية التي تشكلت في مسار تحلل الإمبراطورية العثمانية. ففي حين اتجهت تلك النزعات الوطنية إلى اعتماد المفهوم الديني العرقي للهوية الجماعية، وما يترتب عليه من حقوق إنشاء كيانات سياسية مستقلة (النموذج شرق أوروبي والبلقاني)، فإن المفكرين القوميين العرب (من المسيحيين والمسلمين) تبنوا فكرة الأمة الواحدة المتنوعة دينياً وطائفياً، المتمايزة الأصول الإثنية، لكنها الموحَّدة في الشعور التاريخي والمشروع المستقبلي.
إن ذلك الإرث هو ما فرَّطت فيه الأنظمة التي حكمت باسم القومية العربية، كما فرّطت فيه القوى السياسية المستفيدة من حراك التغيير المدني، بتخليها عن القيم الليبرالية التي هي جوهر النظم الديمقراطية وشرط فاعلية آلياتها الإجرائية المسطرية.
ما نريد أن نخلص إليه هو أن واجب تسديد وترشيد حركية التحول الديمقراطي في العالم العربي يقتضي حالياً العمل الجاد على إعادة بناء الفكرة الوطنية الليبرالية التي هي المرتكز المرجعي الضروري لمجتمعات التعدد والتنوع والاختلاف، في جمعها بين مقاييس الحرية الذاتية ومتطلبات السلم الأهلي.