في العامين 2019 و2020 كثر ظهور الكتب مع طوفانٍ من المقالات عن عالم كورونا أو العالم الذي تسبّب بإحداثه وباء «كوفيد-19». لكنْ منذ منتصف العام 2020 تطورت لهجة الكتب والمقالات باتجاه عالم ما بعد كورونا أو إلى أين يتجه العالم؟ وكيف ستكون كلٌّ من الولايات المتحدة والصين والمشكلات الأوروبية ومشكلات الشرق الأوسط؟
من المهمّ بالطبع استعراض الأفكار حول التوجهات الاستراتيجية، إنما من المهمّ أيضاً أن نرى متغيرات «رؤية العالم» لدى المفكرين والساسة. فهناك إجماعٌ على أنّ العام 2021 ستستمر فيه الصراعات على بحر الصين وما حوله، والمحيط الهندي باعتبار دخول الهند القوي إليه إضافةً للقوى الكبرى الموجودة، وهذا إلى جانب الصراعات الناشبة في البحر الأبيض المتوسط ومن حوله.
على أنّ الشواغل الثلاثة الرئيسية لدى السياسيين والاستراتيجيين الغربيين هي: التطورات الداخلية بالولايات المتحدة، وكيفيات التعامل مع النجاح الصيني الاقتصادي والعسكري. والشاغل الثالث والأكثر إلحاحاً هو كيفية أو كيفيات الخروج من الوهدة الهائلة العمق التي رمى وباء كورونا العالم فيها. فحتى الدول القوية والغنية استدانت كثيراً على المستقبل لخمس أو عشر سنوات، فكيف بالدول متوسطة الدخل أو الفقيرة.
العدد الأخير من مجلة الشؤون الخارجية الأميركية فيه ملفٌّ عنوانه: هل تستطيع أميركا التعافي Can America Recover؟ ومع صدوره أصدر فريد زكريا، الكاتب المعروف، كتاباً يتناول المواضيع الثلاثة: الوضع الأميركي المستجد والمتفاقم، والوضع الغربي مع الصين، ووضع الاقتصاد العالمي المتكسِّر والخاسر. وعنوان الكتاب: عشر أُطروحات لما بعد كورونا. 
والواضح من مقالات مجلة الشؤون الخارجية، وأُطروحات فريد زكريا العشر، وحتى كتاب: الهوية لفوكوياما، أنّ الخوف الأميركي بشأن صعود الصين، تحول إلى خوفين: الخوف من التفوق الصيني، والخوف من الانقسام الأميركي الداخلي. إذ وسط هذا الانقسام الذي لا يقتصر على التنافس الحزبي «الجمهوري» «الديمقراطي»، صار من الصعب الوصول إلى قرارٍ استراتيجيٍّ شامل بشأن الصين أو بشأن العلاقات بعالمي أوروبا وآسيا. لقد أمكن اتخاذ قرار أميركي بعد الحرب الكورية بإنشاء جبهة عالمية منصتها أوروبا الناهضة، من أجل المصارعة على استيعاب الاتحاد السوفييتي من دون حربٍ إن أمكن. ثم كان القرار الثاني في أواخر سبعينيات القرن الماضي بإسقاط الاتحاد السوفييتي، وبدون حربٍ شاملةٍ أيضاً. اليوم هناك خلافٌ كبيرٌ بشأن السياسات الداخلية وليس الخارحية فقط. وعلى سبيل المثال فإنّ زكريا وفوكوياما، وكلاهما من أصولٍ آسيوية، كانا مختلفين جداً على سياسات ترامب رغم أنّ كليهما من المحافظين في الأصل. زكريا كان طروباً لتقارب ترامب مع رئيس وزراء الهند، على حساب الصين. أما فوكوياما فكان يرى أن لا داعي لتوريط الهند في صراعٍ له جذورٍ أصلاً مع جارتها (الصين)، كما أنه لا داعي للتحالف مع أي حكومة تمارس سياسات تمييزية ضد بعض السكان في بلادها، وبخاصةٍ أنّ ترامب أفقد الولايات المتحدة مرجعيتها الأخلاقية بسياساته التمييزية داخل أميركا ذاتها!
وما دمنا نتساءل عن «رؤية العالم»، فإنّ البابا فرنسيس لا يزال مصراً على نشر رسالة الأخوة الإنسانية منذ أعلن عنها مطلع العام 2019 بأبوظبي بالاشتراك مع شيخ الأزهر. فقبل شهرين نشر البابا رسالةً بابويةً عامةً عنوانها «كلنا إخوة»، وهي تعالج العِبَر من الأزمة الاقتصادية الطاحنة، وأزمة الوباء، وتدعو للتضامن العالمي والتحالف ضد الفقر والأوبئة والاختلال البيئي والتعصب الديني والإثني وأطماع ومطامح السطوة والسيطرة بالداخل وفي المجال الخارجي. وقد ظهرت الحاجة الشديدة للتضامن ونشر السلام والتعاون ليس لدى رجال الدين وفلاسفة الأخلاق فقط، بل ولدى كبار المفكرين الاقتصاديين. ولا أحد يدري بمدى الاستجابة، لكنّ أوضح الردود حتى الآن أنّ التضامن الفعلي يحتاج إلى إنفاقٍ هائلٍ يفوق التصور، وما عاد أحدٌ يملك الإمكانيات أو الإرادة.
السياسات العالمية كانت شديدة المرض قبل «الوباء الوافد». وقد أدّى الوباء إلى كشف بعض هذه الأمراض السياسية والأخلاقية. والتضامن العالمي لمكافحة الأمراض، لا يحتاج إلى القدرات فقط، بل وإلى الاستنارة والشجاعة أيضاً!

*أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية