وفد منذ عام، كان غامضاً ومربكاً، وها هو على وشك الرحيل، كأنه حضر بما لا تشتهي النفس ولا تطيق، وقام مقام الضيف الثقيل، جير الوجود له في الغياب، وضرب بسلاسة وأوجع الأيام، كما لم توجعها أعوام خلت، جعلها تتخلى عن حالة الابتهاج المعتاد وتشقى، هكذا تستقبل الأعوام بفرح، وفي بدايتها يتجلى الصخب، لكنه جرح تلك الأفراح وغادر بها إلى زاوية من المنفى والسراب، وأصاب باختلاجات نفسية ممن ترك، رحل غير مأسوف على رحيله، هذا الراحل المبطن بالخوف، وبحرفة المباغتة، تاركاً العالم حبيس خوفه المنهمر من القلب، وبحزنه اكتحلت به الأيام الراحلة إلى مكانها المحتوم، حذفت تماماً من الذاكرة المتعبة بشقاء وأوهام، سدلت الستائر على كل شيء جميل، حقاً كان الكل يستعجله في المضي، غير قابل للتجديد ولا ثمة تأمل في بقاء ما يمكن من ذاكرته.
لكنه أيقظ ضمير البشرية من سكونها الأخير، فما كانت تجهله فطنته، وعلمت بأن الحياة ليست قسوة، ولا هي امتدادات للمجهول، قد بدد الأشياء المألوفة، والدارجة دون استئذان من الأحياء ولا الحياة، وعلم الإنسانية بما لم تعلم، وكأنها لا تمضي إلا في رمقها الأخير، فاشتد تركيزها وتدفق بها التنبه.
إنه عام آخر قادم بلا مقدمات، سوى قصد الفرح المتجدد، هذا شغف المتخيل من الإنسانية، على أقل تقدير مواعيدها الجميلة، تنبئها بالآمال وتخرجها من قفص الخوف ومن لوحة الحزن السائد، كان عاماً لشمعة مطفأة ككل الشمعات التي انتهت، ولا بد أن نشعل أخرى احتفاء بالإنسان وبالحياة وبالطبيعة وبالأغصان الخضراء النابضة سحراً، معنى آخر للحياة لا بد أن تختلجها الإنسانية بصفاء الروح، وأن تقول للراحلين من البشر سلاماً لكم يؤنس وحدتكم، وهكذا هي الأقدار.
عام آخر يستيقظ، وبشدو الأمل وبسحر الفكر المبتهج بدهشة الأيام، نتصفح الحلم من جديد لنرسم لوحة الأمل المتجدد، أو مشاهد الأفكار التي تبدو ناضجة ومدهشة، لأن حكاياتها حتماً مختلفة لأنها آتية بالفرج، أو هكذا نستمر في قراءة القادم بيقظة الروح التي تسمو بالدعاء المستحب، فمهما كانت طبيعة الأيام ونوايا القدر واستدراج الأعوام، لكن للإنسانية بصيرتها نحو الحياة، ولها هودج النجاح، ولها شغفها وفضائلها المتوهجة باحتدام مع الحياة ومخرجاتها.
عام آخر يفد، ربما يلهم البشرية بالحياة المثلى الجميلة، ويلبسها ثوب الأيام المتجددة، ويسمو بها في روح البشرية، والأيام هي مجرد لوحة شفافة رسمتها الذاكرة على أنها مختلفة زاهية الاتساق والرؤى، والألوان تعيد الحياة على بدء.