تشير التعيينات التي يقوم بها الرؤساء الأميركيون في المجالات الخارجية والعسكرية والأمنية إلى نوع المقاربة الاستراتيجية التي سيتم التعامل وفقها وإلى باقة الأولويات التي يؤمن بها شاغل البيت الأبيض. فنحن نتذكر أنه في عهد الرئيس بوش الابن، كان «المحافظون الجدد» هم أساتذة الفن الاستراتيجي المؤهلون لبلورة وتنفيذ السياسة الخارجية والأمنية للولايات المتحدة، ومازالت سياستهم الخارجية في تلك الفترة وتدخلهم العسكري، دون «نظارات استراتيجية» دقيقة، تلقي بفاتورتها الثقيلة على البيت الأبيض، والسياسة الخارجية الأميركية، وعلى مستقبل الأمن القومي الأميركي. فقد حصل في تلك الفترة ارتباك في العمل الاستراتيجي؛ لأن أعضاء فريق الدبلوماسية والأمن القومي كانوا يعملون في مستويات مختلفة، وكانت لهم أدوار مختلفة... وهذا الخلط أدى إلى ارتباك أدوار بعض المؤسسات الأميركية، وبالتالي إلى ضعف في الإنتاج والمردودية. وهذا هو الجانب الخفي في بعض التقارير الأميركية، وهذا ما تحذِّر منه نظريات الاستراتيجية في مجال العلاقات الدولية.
يعي الرئيس المنتخب جو بايدن هذه الإشكالية جيداً، ويعي أن للبنية الاستراتيجية الحديثة سمات أربع: التقلب، والتوجس، والتعقيد، والغموض. وهي بنية تستلزم استراتيجية جديدة في التعامل كما تستوجب تعيين أشخاص يحملون راية هذا الأسلوب الجديد. ومن خلال التعيينات المرتبطة بالسياسات الخارجية والعسكرية والأمنية للرئيس المنتخب بايدن، ومن خلال تصريحاته الإعلامية، فإن المقاربة التي سيتبناها ستكون قائمة على «العصا والجزرة» في التعامل مع تحديات الشرق الأوسط على الخصوص، خاصة فيما يتصل بخطر حصول إيران على أسلحة نووية، بالإضافة إلى قطع شرايينها الممتدة والمزعزعة للاستقرار في الشرق الأوسط.
ويقيني أن بايدن يروم من خلال ترشيح أنتوني بلينكن لمنصب وزير الخارجية وجايك سوليفان كمستشار للأمن القومي، إلى التركيز أكثر على الدبلوماسية. فبلينكن (58 عاماً) الرجل القانوني، المولود لأبوين يهوديين، هو أحد مستشاري بايدن الرئيسيّين في مجال السياسة الخارجيّة، وكان المسؤول الثاني في وزارة الخارجيّة الأميركيّة في عهد الرئيس السابق باراك أوباما عندما كان بايدن يشغل منصب نائب الرئيس. وهو أحد معارضي السياسة المتشددة التي كانت تتبناها إدارة ترامب حيال الصين. وفي مقابلة له خلال شهر أكتوبر الماضي مع قناة CNN أكد على ضرورة استعادة أميركا موقعها الريادي على الساحة الدولية، وقال: «ما حدث الآن هو أن الرئيس ترامب تنازل عن هذه المسؤوليات ووضعنا في حالة انسحاب كاملة من حلفائنا وشركائنا ومن المنظمات والاتفاقات الدولية، وهنا تكمن المشكلة: عندما لا نكون منخرطين وعندما لا نقود، فإن ما يحدث هو أمر من اثنين إما أن دولا أخرى تبدأ بمحاولة أخذ مكاننا، وعلى الأغلب ليس بصورة تناسب مصالحنا وقيّمنا، وإما أن يكون هناك فراغ يخلق فوضى وأموراً سيئة».
كما أن اختيار نائبة المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية «سي آي إي»، أفريل هاينز، مديرةً للاستخبارات الوطنية، يمكن أن يعني الاستثمار أكثر في استخدام التكنولوجيا المتقدمة في حروب الجيل الخامس، وهي حروب هجينة تجمع بين مكونات الحروب التقليدية وغير التقليدية. ولعل أهم تجل لها يكمن في الحروب الإلكترونية وشبيهاتها. فالمحددات الحالية لنوعية الحروب بدأت تتغير جذرياً عما ألفناه وعما نظَّر له كبار الاستراتيجيين الكلاسيكيين مثل الصيني «صن تزو» أو الجنرال البروسي «كارل فون كلاوزفيت» الذي يشبّه الحرب بمبارزة على أوسع نطاق ويقارنها بصراع بين اثنين من المتبارزين. لذا نراه يسخر من النظرية القائلة بالحرب دون إراقة الدماء، فيقول: «لا تحدثونا عن قادة ينتصرون دون سفك الدماء». أما اليوم فمن شأن الهجمات الالكترونية أو الفيروسية أن تتعدى ويلات الحرب الكلاسيكية ويمكنها أن تسبب في إيقاف العالم.
كما أن تسمية الجنرال المتقاعد لويد أوستن وزيراً للدفاع، تعني الاستفادة من عقود من الخبرة الاستراتيجية العسكرية وبالأخص في القيادة الأميركية الوسطى المعنية بمنطقة الشرق الأوسط. وكذلك اختيار المستشارة السابقة لمجلس الأمن القومي سوزان رايس التي اشتغلت أيضاً مندوبة أميركية لدى الأمم المتحدة، لقيادة مجلس السياسة الداخلية بالبيت الأبيض، حيث ستصبح ضمن الدائرة المقربة في الجناح الغربي، لتساهم في القرارات الداخلية والخارجية.