معروف عن الإنسان صعوبة تعلمه، وفي ذات الوقت قدرته على ترميم نفسه بعد الصدمات التي قد يواجهها خلال حياته. لكن وعلى الرغم من ذلك فإنه لن يتراجع بسهولة عن الدرس الجديد الذي نقش وبعمق على كافة الجدران التي يبني منها ذاكرته ووجدانه وأهدافه، لا سيما في ظل الجائحة الحالية التي لم تترك مجالاً لاستثناء شيء من العيش ضمن الحدود الجديدة المفروضة قسراً، وبخاصة في ظل ما أثبتته الدراسات من تأثير الأزمات والنزاعات والأوبئة (ومنها «كوفيد-19») والتغير المناخي وأثره على الأمن الغذائي. 
وكما قال دومينيك بيرجيون، المسؤول في منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة، فـ«لعل أحد الجوانب المشرقة لهذه الجائحة هو الإدراك المشترك بأننا جميعاً في مواجهة هذه المحنة معاً. وعلى الرغم من تركيزنا جميعاً -وهو أمر مفهوم- على ضمان رفاه عائلاتنا وجيراننا ودولنا، فقد أدركنا أيضاً أن هذا الفيروس لا يحترم الحدود. فإذا تغلبنا عليه في العالم المتقدم، وسمحنا له بالانتشار في البلدان ذات الموارد الأقل، حيث يعاني الناس من الجوع الذي يجعلهم أقل قدرة على تحمل المرض، فسوف يعود هذا الفيروس ليطاردنا جميعاً».
وفي خضم المحاولات البشرية الحثيثة لتجاوز أخطر التداعيات وما نتج عنها من آثار، تبرز أزمة «القلق الغذائي» لتحويله لأمن غذائي، من خلال ضمان توحيد جهود معظم دول العالم لتحقيق هذا الهدف الذي سيشكل ثمرة ناضجة، تغذت على الضوابط المتقنة، والأطر العملية الجادة، والآليات المستحدثة، بغية الدعم والمواكبة في شتى المجالات ذات الارتباط بالأمن الغذائي الذي لا يمكن تحقيقه على مستوى العالم دون ربط وتقوية أواصر التعاون بين الإنسان وأخيه الإنسان، ذلك أن التعاون هو جذر متأصل تأصل الوجود الإنساني الذي فطر على التعايش، فلا يمكن للإنسان العيش معتمداً على ذاته وحسب، بل يلزمه أن يتشارك في حياته مع أخيه الإنسان وبمختلف القطاعات والمجالات (الغذاء، الدواء، التعليم، البناء..)، ليكون المجتمع ككل صورة فسيفسائية زاهية ومتقنة يؤدي فيها كل شخص عمله، وبذلك تستقيم حياة الجميع. وهو ما عبّر عنها أبو علم الاجتماع «ابن خلدون» بقوله: «الاجتماع الإنساني ضروري لا بد منه، وهو المدنية في الاصطلاح وهو معنى العمران»، والتي شُكِلت منه لاحقاً أساسات القاعدة الاجتماعية المعروفة «الإنسان مدني بطبعه». 
وحتى يتسنى للخطط والاستراتيجيات أن تبصر النور، دافِعةً نحو تحقيق الأمن الغذائي، لا بد من نشر وإطلاق المبادرات العالمية المعنية بذلك، مثل «خطة التنمية المستدامة لعام 2030»، و«مبادئ روما الخمسة بشأن الأمن الغذائي العالمي المستدام»، و«المبادئ الخاصة بالاستثمارات المسؤولة في الزراعة ونظم الأغذية».. والتي ستعمل مجتمعةً على مجابهة الجوع، وتوفير الأمن الغذائي كما يلزم، وإدارة بوصلة حقوق الإنسان الموجهة لهذه القضية وما يتعلق بها، وتعزيز الزراعة المستدامة، وتنظيم ذلك من خلال مبادئ واضحة ومجمع عليها لمعالجة الاستثمارات ذات الشأن، وبالتالي تعزيز التنسيق الواسع والاستراتيجي على المستويات الوطنية والإقليمية والعالمية الدافعة نحو تحسين الحوكمة ووضع أسس التعاون بين الجهات المانحة والبلدان النامية. 
ومن جهة أخرى فإن النجاح في تحقيق الأمن الغذائي، وبخاصة في الدول «الأقل نمواً»، يلزمه دعماً مكثفاً، ومواكبة مستمرةً من قبل الهيئات الدولية والإقليمية ذات الصلة بالأمن الغذائي، وبالتوازي معه لا بد من اعتماد الشراكات وتوسيع أفق التعاون بين الدول قدر الإمكان، والعمل على دعم المؤسسات البحثية الزراعية الوطنية، وتنمية قدراتها، وزيادة الدعم الفني، وبخاصة من قبل منظمة «الفاو»، باعتبارها إحدى أهم المنظمات الدولية التي توفر هذا الدعم للدول النامية. 
إن تحطيم ناقوس «القلق» المصاحب لقضايا الغذاء والدواء والاقتصاد.. وغيرها، يعتبر خطوة ملحة للحصول على «تأشيرة الدخول» للنظام العالمي الجديد، والتي تستند على الإنسانية عامةً، وتعود بنفعها أو ضرها عليها، وبالتالي فهي عملية مشتركة ومتكاملة ومترابطة، ومؤسسة على اتحاد الإنسانية في وجه كافة الصعوبات. يرى الفيلسوف ابن خلدون أن «الإنسان تشاركه جميع الحيوانات في الحس والحركة والغذاء واتخاذ المساكن، وإنما يتميز الإنسان عن غيره بالفكر الذي يهتدي به إلى الصواب، واتباع المصالح»، ومن هنا تأتي حتمية الخروج بفكر يسهم في إخراج الإنسان من أزماته، وفي تغلبه على تحدياته، ويعطي للإنسان التميز الحقيقي الذي يستحق، داعماً الدور البشري في العمران وبناء الحضارة، التي قد يشوبها تذبذب ظرفي، لكنها لا تتوقف.