طوال سنوات حكمه الأربع، وصف عديدون تصرفات الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالخارجة عن مألوف السياسة الأميركية ومواقفه بالغرابة والغموض.. مع أن الأمر الواضح والأكيد أن الرجل يعرف ما يفعله في الداخل الأميركي. فقد تبين أن تركيزه الأول والأخير، كان ولا يزال منذ سنوات، يستهدف تعزيز صلاته مع قاعدته الجماهيرية والانتخابية، مصدر قوته. ومن الواضح أن هذه القاعدة الشعبية بمكوناتها (الأفلنجيكية، دعاة تفوق العرق الأبيض، حركة اقتناء الأسلحة، حركات اليمين واليمين المتطرف.. إلخ) تشكل تقريباً نصف المجتمع الأميركي.
لقد نجح ترامب في مهمته تلك، بدليل حصوله على أكثر من 74 مليون صوت، وهو أعلى رقم لمرشح خاسر في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية، بمن فيهم الرؤساء الأميركيون الثلاثة الذين سبقوه (وغيرهم بطبيعة الحال). وعلى الفور، وظف الرئيس ترامب بدهاء هذا الأمر لينكر خسارته في الانتخابات الرئاسية. فبدل أن يعترف سريعاً بالخسارة، أمام جماهير وقيادات الحزب الجمهوري، استند إلى هذه الأصوات الـ74 مليون ليبقوا وراءه داعمين له سياسياً. والدليل أن 68% من جمهور الحزب الجمهوري يؤمنون بأن الانتخابات الرئاسية مزورةً وبأنها باطلة وقد سُرقت من ترامب ومنهم!
لقد أصبح هؤلاء أتباعاً شخصيين لقيادة ترامب الشعبية أكثر مما هم أعضاء أو مؤيدون للحزب الجمهوري. بل يمكن اعتبار أن ترامب ترشح عملياً من خارج الحزب بعد أن عرف كيف يجند الأعداد الكبيرة المؤيدة له من خلال اهتمامه بالقضايا التي تهم قطاعاً واسعاً من الجمهور الأميركي. لقد عرف كيف يعزف عليها يوم نجح بالفوز بترشيح الحزب، ولجم كل القادة الجمهوريين الذين كانوا يسخرون منه، ثم متن علاقته مع هؤلاء الأتباع طوال الوقت، وكرّس وقته لتقوية مركزه في هذه الأوساط التي يعبر هو عنها وعن مخاوفها وعن طموحاتها أحياناً وعن تعصبها في بعض المرات.. إلخ. لقد شكل هؤلاء الأتباع «القاعدة الجماهيرية» لترامب، وبالتالي سلاحه الفعال في مواجهة القادة الجمهوريين الآخرين. ويمكن القول إن ترامب أكمل عملياً السيطرة ليس على الحزب فحسب، بل وعلى قاعدته الجماهيرية أيضاً، حين لم يعترف بنتائج الانتخابات مقنِعاً تلك «القاعدة» بتزوير النتائج، على عكس كل ما يقول به المنطق وتعلنه المحاكم، وحتى وجدان القادة «الجمهوريين» أنفسهم قبل «الديمقراطيين».
بهذه السياسة، كرّس ترامب نفسَه زعيماً وقائداً لا منازع له في الحزب الجمهوري، بل وصانع أقدار المرشحين الجمهوريين، بحيث يُسقِط هو مَن يشاء ويعلي شأن مَن يشاء. وهو الآن، وبهذه القوة، بإمكانه أن يرشح مَن يريد للرئاسة الأميركية عام 2024، سواء أكان نائبه الحالي مايك بنس أم وزير الخارجية الحالي مايك بومبيو.. أو أي شخص آخر يختاره لاحقاً. 
وما زال (ترامب) يراهن على أنه سيملك «فيتو» في وجه سياسات الديمقراطيين ورئيسهم بايدن، خاصة إن تأكد انتصار الجمهوريين وحافظوا على الأغلبية في مجلس الشيوخ.
هذه الوقائع كلها، إن كانت تنبئ بشيء، فإنها تنبئ بأن ترامب قد نجح في بناء حركة سياسية داخل المجتمع الأميركي، وأنه هو رئيسها وزعيمها ومقررها. من يعرف ما يريده نصف الشعب الأميركي ويصبح مجسداً له ليس شخصاً عادياً. والذي ينجح في الحصول على ملايين أصوات الشعب ليس شخصاً عادياً. والذي يجمع أكثر من 210 ملايين دولار من أجل خوض «المعارك القانونية» ضد نتيجة الانتخابات الرئاسية ليس شخصاً عادياً. والذي يكرس، رغم خساراته الواضحة في الانتخابات، ولاء ملايين الأصوات وبقاءها معه، ويسيطر بالتالي على الحزب الجمهوري وعلى الشارع السياسي، هو بالتأكيد ليس شخصاً عادياً.