أُعلن في تونس عن رحيل الفيلسوف وعالم الاجتماع «عبد الوهاب بوحديبة»، أحد بُناة الجامعة التونسية وأستاذ الأجيال المتعاقبة التي درست في أقسام الفلسفة والعلوم الإنسانية خلال ستين سنة الأخيرة.
كان الرجل من أوائل من اقتحم البحث الفلسفي الاجتماعي في قضايا الأمة الإسلامية، خلال دراسته في فرنسا قبل استقلال، تونس ومن أبرز أساتذته الفيلسوف الكبير «بول ريكور»، وكنت حاضرا خلال لقائهما العلمي الأخير قبيل رحيل ريكور عام 2005، في رحاب مؤسسة بيت الحكمة التي أدارها بوحديبة سنوات طويلة.
موضوعان أساسيان شغلا بوحديبة في مساره الفكري والأكاديمي الكثيف هما: الحوار بين معتنقي الديانات، وقد أشرف على سلسلة طويلة من اللقاءات الحوارية من هذا النوع خلال إدارته معهدَ البحثي الجامعي، ثم النزعة الإنسانية في الإسلام التي كانت موضوع جل أعماله الفكرية. 
ولا تخفى العلاقة بين الموضوعين، فقد كان الراحل على إيمان عميق بأن الدفاع عن الإسلام يقتضي تقديمه في جوانبه وتجاربه الحضارية المنفتحة والمتسامحة والمفتوحة على الآخر، وذلك هو أيضاً شرط النقاش المثمر والجاد مع المفكرين ورجال الدين من الديانات الأخرى. 
كان بوحديبة من أجل هذا الغرض حريصاً على استكشاف تجربتين أساسيتين من تجارب الإسلام الحضاري هما: النزعة العقلانية الإنسانية الوسيطة التي تندرج في ما أطلق عليه مروان راشد «التنوير العباسي»، والإسلام الصوفي الأهلي الذي عاشه في وسطه الأسري في مدينته القيروان. 
التجربة الأولى اتسمت بميزتين محوريتين: المنهج التأويلي المنفتح على الفلسفة اليونانية بصفتها نموذج الحكمة العقلية التي هي معيار فهم النص الشرعي (مما برز في بقوة في كتابات الفارابي وابن سينا وانتهاءً بابن رشد) وخط الانفتاح الفكري والاجتماعي الواسع الذي عبرت عنه مصنفات وأعمال الأدباء من أمثال الجاحظ والتوحيدي وابن مسكويه والمعري التي قارنها «محمد أركون» بالنزعة الإنسانية في عهد النهضة الأوربية.
أما الإسلام الصوفي الأهلي فهو الذي ساد على نطاق واسع في المجتمعات العربية الإسلامية الوسيطة، وشكل أساس نمط عيشها وحدد علاقاتها المتسامحة مع المكونات غير المسلمة في هذه المجتمعات، وأساسها اليهود في بلدان المغرب العربي.
كان بوحديبة حريصاً على تحقيق وإخراج النصوص التراثية التي تحمل هذه الرسالة الإنسانية والمتسامحة، وقد اعتبرها الرد الأقوى والأنجع على مَن يتهم الحضارة الإسلامية بالتعصب والانغلاق ويقول إن من يقرأ الإسلام اليوم بعيون الإسلام السياسي والجماعات الراديكالية المتشددة سينتهي لا شك إلى موقف عدائي من هذا الدين. 
بيد أن ما أقلق بوحديبة الذي عاصر كبار المستشرقين وقرأ أعمالهم وحاورهم هو تراجع الدراسات الإسلامية في الغرب التي ظهرت وتطورت أساساً في الأوساط اللاهوتية. في لقاء حضرته قبل سنوات بين المفكر الراحل وعميد المستشرقين الأحياء عالم الإسلاميات الألماني «جوزف فان أس»، في تونس، اشتكى الاثنان من سوء تأثير تردي التخصصات الإسلامية في الجامعات الغربية على آفاق الحوار الديني والسياسات المتعلقة بالدين والهجرة في البلدان الأوروبية. 
في السبعينيات أصدر بوحديبة كتابه الذي اشتهر به حول «الجنسانية في الإسلام»، وهو في أصله أطروحته للدكتوراه في فرنسا. ومع أن الكتاب بدا غريباً على منحى الدراسات الإنسانية وقتها، ومع أنه ابتعد في الظاهر عن مسلك البحث الفلسفي الذي استأثر باهتمامه الأول، إلا أنه عمل في هذا الكتاب التأسيسي على الوقوف على ما أسماه بإسلام العيش والحياة الذي كثيراً ما تطمسه الأعمال الفقهية الكلاسيكية والخطاب الدعوي المؤدلج. 
ما أراد أن يبينه بوحديبة هو أن الإسلام هو في حقيقته دين ومنظومة قيم وحضارة، ولا يمكن الاستغناء عن أي من هذه الجوانب الثلاثة في استقراء تجربة المجتمعات المسلمة تاريخياً وواقعاً راهناً. الدين هو المرجعية الناظمة ودائرة المقدس العليا، إلا أنه يترجم ضرورة في نمط معيش حي، ومن هنا الإطار الإنساني المجتمعي الذي يتنزل فيه ويمنحه المعنى والدلالة. أما القيم فهي معايير موجهة ومقاصد ثابتة، تترجم في مواقف سلوكية وأنماط تأويلية حية، بدونها تبقى دوافع مجردة وفضائل مطلقة.
وهكذا ندرك حرص بوحديبة على الجمع الوثيق بين منهج الفيلسوف التساؤلي النقدي والمفهومي (وقد ظل فيلسوفاً محترفاً حتى آخر يوم من حياته) ومنهج عالم الاجتماع الذي يرتبط بالواقع المعيش وينطلق من محدداته وسياقاته. تلك هي خصوصية بوحديبة بين المفكرين العرب الذين سعى أغلبهم إلى وضع مشاريع طموحة لقراءة التراث والتشريع للثورات الفكرية والمجتمعية دون فهم الواقع العربي وإدراك إشكالاته ورهاناته.