الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

عن دور وحضور مسيحيي فلسطين والمشرق العربي.. بحثٌ عن «ملح الأرض»

عن دور وحضور مسيحيي فلسطين والمشرق العربي.. بحثٌ عن «ملح الأرض»
17 ديسمبر 2020 03:10

عز الدين عناية

من الأبحاث الجادة الصادرة في روما خلال أكتوبر الماضي كتاب «الصليب والكوفيّة» للباحثة والمستعرِبة الإيطالية باولا بيزّو، وتؤرّخ فيه مؤلّفته لأوضاع مسيحيّي فلسطين في الحقبة المعاصرة. وتَتَتبّع الباحثة، عبر رحلة البحث والتقصّي، ما تبقّى من «ملح الأرض»، ذلك التوصيف الذي خلعه المسيح، عليه السلام، على أتباعه الأوائل من أهالي فلسطين التاريخية، قبل أن تَتعبّأ الديانات داخل قوميات وتُتّخَذ عناوين لأقوام ومجتمعات. وقد استطاعت مؤلّفة الكتاب أن تقدّم خلاصة موثّقة عن أناس آثروا أن يظلّوا شاهدين على تعاليم معلّمهم رغم الصعاب والشدائد.
وتستهلّ الباحثة كتابها بإشارة ذكية، وإن بدت بمثابة الحديث العامّ عن سكنى المسيحيين العرب فلسطين ومنطقة الهلال الخصيب، منذ عهود المسيحية الأولى وإلى اليوم من دون انقطاع.
وأنّ تراجع أعدادهم في الراهن ليس تحدّياً للدول العربية وحدها، بل لسياسة التعايش في الداخل الإسرائيلي أيضاً. وما من شكّ في أنّ المسألة في الوقت الحالي لا تقف عند حدود الاعتراف بحقوق المسيحي الفلسطينيّ على أرضه، بل تتخطى ذلك أيضاً إلى خلق وفاق اجتماعي وثقافي من شأنه أن يغذّي الرغبة الجماعية في العيش معاً.
فما من شكّ أنّ ادّعاءات حشر مسيحيي بلدان المشرق العربي، ضمن منظور قومي متقادم، بدعوى الخلاص والملجأ، قد استنفدت طاقتها، وأنّ المطلوب اليوم هو إيجاد رابطة مواطَنية داخل المجتمعات القائمة، تقوم على أساسيْ المساواة والكرامة وتستلهم منظوراً مدنيّاً متطوراً. وقد بات الحديث عن التنوعات الدينية في البلاد العربية بمنطق الأقلية والأكثرية لاغياً، لِما يتضمّنه من دونية وتحقير. ولعلّها النتيجة التي خلص إليها شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب وأعلن بطلانها في مؤتمر «الحرية والمواطنة.. التنوع والتكامل» (القاهرة: مارس 2017) والاستعاضة عنها بمفهوم المواطَنة الجامعة.

مجتمع مديني
فعلى مدى عقود مرّ مسيحيّو فلسطين بأطوار ديمغرافية وأوضاع اقتصادية واجتماعية متنوّعة، ولكنّ الشيء الذي ميّز السواد الأعظم منهم، منذ مطلع القرن الماضي، هو الطابع المديني الحَضريّ. وقد آثر جلّ المسيحيين القدس ويافا وحيفا وشكّلوا الأغلبية في رام الله وبيت لحم والناصرة. وكان 18 بالمئة منهم فقط من المزارعين بحسب إحصاء يعود إلى عام 1931 كما تورد الباحثة. وقد بوّأ ذلك الحضورُ المديني الواضح أتباعَ المسيح للَعب دورٍ متقدّم في الشأن السياسي والثقافي، العربي والفلسطيني. ومنذ عشرينيات القرن الماضي ظهرت قيادات مسيحية في فلسطين وفي دول الجوار تحمّلت الدور التفاوضي مع الغرب بشأن مسألة فلسطين وقضايا العرب. 
وأمّا في فلسطين ومع سنوات الانتداب البريطاني الأولى، فقد انتظمت الحركة الوطنية الفلسطينية في جبهة موحَّدة تقريباً، وذلك ضمن وفاق إسلامي مسيحي آمن بعروبة فلسطين. وبدا ذلك التلاحم جلياً في الدور الذي لعبته عائلة الغوري المقدسية المسيحية. فقد كانت تُعقد اجتماعات وجهاء المسيحيين في بيت العائلة لصياغة المطالب للمندوب البريطاني. وقد أعرب الأهالي المسيحيون في إحداها عن عدم اعترافهم بمفتٍ آخر غير الحاج أمين الحسيني وذلك أثناء حملة تنصيبه (1921).

غَرْبنة المسيحية الشرقية
وتأكيداً لذلك التلاحم بين مكوَّنات الشعب الواحد، تَرصُد الباحثة النظرة الموحَّدة بين المسيحيين والمسلمين، إبان اشتداد أوار حملات المبشّرين الأجانب في بداية القرن الفائت، بوصفها تهديداً وانتهاكاً لثقافتهم المحلية. بل دفع ردّ الفعل على التبشير الأجنبي المسيحيين في لبنان وفلسطين، وكما هو الحال مع أقباط مصر، إلى الإعراب في أكثر من محفل وموقف أنهم أقرب إلى شركائهم في الوطن من المسلمين منهم إلى المبشّرين الأوروبيين. وقد وقف السياسي الفلسطيني إميل الغوري (1907- 1984) مبكّراً في وجه عمليات غَرْبنة المسيحية الشرقية، حتى وإن رضيت الجموع المسيحية المنهكَة بالخدمات المتاحة في مجالات التعليم والثقافة والمعونة الاجتماعية.
والواقع أن أهالي منطقة الشام بشقّيهما المسيحي والمسلم، منذ أواخر العهد العثماني، وأمام تفاقم الأنشطة التبشيرية باتوا يعولون على أنفسهم. ففي بيروت أنشأ بطرس البستاني «المدرسة الوطنية» (1868)، وبعد عشر سنوات أنشأت «جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية» مدارسها الخاصة. وفي طرابلس تم افتتاح «المدرسة الحميدية» (1895)، وفي القدس أنشأت بطريركية الروم الأرثوذكس «مدرسة مار متري الثانوية».

تحوّل جذري
ولكن بحصول النكبة دبّ تحوّل جذري في أوضاع مسيحيّي فلسطين، وتُبرز الباحثة أنّ أحداث (1948) قد مثّلت فاصلاً بارزاً في تاريخ المنطقة. فمع نهاية الحرب العالمية الثانية ناهز عدد مسيحيي فلسطين 135.000 من جملة 1.750.000 ساكن، أي بما يعادل 8.8 بالمئة من المجموع العام. ولكن مع حصول النكبة اندلعت حركة تهجير واسعة في القرى والبلدات، ترك على إثرها ما يتراوح بين 700.000 و800.000 نسمة فلسطين، وظلّ 160.000 في أراضي دولة إسرائيل مجملهم من أهالي الريف والبادية. ولذلك وجد الفلسطينيون الباقون أنفسهم دون نخبة ودون قيادة في أعقاب التهجير.
وعلى ما تروي الباحثة، خلال عام 1948 وقَبل حدوث النكبة، كان قرابة 140.000 من المسيحيين يقيمون في أرض فلسطين، ولم تمض سوى أشهر قليلة حتى غادر نحو 50.000 منهم فلسطين، ما يعني الثلث تقريباً، أي بما يمثّل 7 بالمئة من لاجئي 48. وعلى إثر تلك الأحداث تراجع عدد المسيحيين من 8 بالمئة إلى 2.8.

تحييد الناصرة
لكن المصائب التي حلّت بالفلسطينيين في أعقاب النكبة ادّخرت بعضاً من مآسيها، فلم تَطَل آثار التهجير مدينة الناصرة. وتروي الباحثة أن ديفيد بن غوريون، رئيس الوزراء الإسرائيلي حينها، اتخذ قراراً بتحييد مدينة الناصرة خشية ردّ فعل العالم المسيحيّ، وقال كلمته الشهيرة: «العالم يرصد أفعالنا»، في وقت كان فيه الجيش الإسرائيلي يتأهّب لطرد 18.000 ساكن -عدد سكان المدينة أواخر الانتداب- وقد كان من ضمنهم 10.000 مسيحي.
وضاعف ذلك الوضع الاستثنائي للناصرة عدد سكان المدينة في السنة الموالية، مما حوّلها إلى شبه ملجأ لعرب الداخل، فبلغ عدد السكان 30.000 مع أول إحصاء إسرائيلي سنة 1949.

الأرقام الآن
وفي ما يخصّ الوضع الراهن تورد الباحثة أنّ الإحصاءات الإسرائيلية الأخيرة العائدة إلى عام 2019، تشير إلى أنّ عدد العرب 1.916.000 وهم يمثّلون 21 بالمئة من المجموع العام. ويبلغ عدد المسيحيين بينهم 177.000، أي بما يعادل نسبة 2 بالمئة من المجموع العام، وبما يعادل 7.2 بالمئة من المجموعة العربية. ومن جانب آخر وبحسب الإحصاء المنجَز في أراضي السلطة الفلسطينية، خلال عام 2017، بلغ عدد المسيحيين (46.850) وأنّ أغلبهم من الكاثوليك، وهم يقيمون أساساً في الضفة الغربية: في بيت لحم (23.165) ورام الله (10.255) والقدس (8558)، وفي قطاع غزة ما يفوق الألف بقليل.

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©