تبنى مركز الملك فيصل للبحوث والدِّراسات الإسلاميَّة بالرِّياض، وجامعة الفارابي بجمهوريَّة كازاخستان، ندوة (8 - 12 - 2020) بمناسبة مرور (1150) عاماً على ميلاد أبي نصر الفارابي (ت: 339هجرية). لو حسبنا إنجازات الفارابي في الفلسفة والمنطق والموسيقى، في (القرن الرَّابع الهجري/ العاشر الميلادي)، وقابلناها بما أتى بعدها مِن خيبات، وما زال الحال عليه، بما هو أكثر خيبةً، لصح لنَّا وصف ما أُنجز مِن تنوير بمجرد صدى الماضي البعيد. 
كان ذلك القرن حافلاً بالتَّنويريين، مِن فلاسفة وأدباء، كالمعري والتوحيدي، ومسكويه، ومتّى بن يونس، ويوحنا بن جيلان، وأبي سليمان المنطقي، وابن سينا، والمتنبي، وعَدي بن يحيى، وبديع الزَّمان. ظلت مصنفات هؤلاء وغيرهم، متكأً لمَن يوقد شعلة التَّنوير كلما حاصرها الظَّلام. كانت قصة الفارابي مثيرةً في تفاصيلها، وهي ابنة ذلك القرن المتوهج، مع ما كان فيه مِن اختلالات سياسية فظيعة. إلا أنَّ وجود الفارابي، والمضيئين لأزمنتهم مِن أمثاله، في التَّاريخ العربي الإسلامي، يرد على مَن يتحدث بلا معرفة، أن الأربعة عشر قرناً كانت جهالةً ودماءً بلا فواصل! 
كانت مداخلتي، بعنوان «يوميات الفارابي ببغداد والشّام»، وصل الفارابي بغداد مِن فارياب لا يعرف «العربية»، ومجرد قارئ للفلسفة، فقبلها كان يقرأ الكتب على مصابيح الحُراس. تعلم ببغداد «العربيَّة»، ودخل في حلقة متى بن يونس المنطقي (ت: 328هجريَّة)، بين عشرات الطُّلاب، ودرس لدى مناطقة آخرين. أتقن اللِّسان العربي، وصنف به كتبه الفلسفية والمنطقية، صنف «الألفاظ والحروف» في الفلسفة واللغة، و«آراء أهل المدينة الفاضلة»، وفيه قدم فلسفته بالفيض، و«إحصاء العلوم» متأثراً بآراء أفلاطون وأرسطو، اللذين صنف فيهما «الجمع بين الحكيمين» (ابن أبي أُصيبعة، عيون الأنباء في طبقات الأطباء)، فمن وصايا الفارابي لمَن يدرس الفلسفة أن يبدأ بتاريخ الفلاسفة. 
بعد السَّبع سنوات التي قضاها ببغداد (323 - 330 هجرية) خرج الفارابي فيلسوفاً يُشار إليه بالبنان، مع استيعاب فن الموسيقى، فحسب ابن خِلكان (681هجرية) ينسب إليه اختراع آلة «القانون»، وعمل على سلم موسيقي لم يسبقه إليه أحد. احتضنه سيف الدَّولة الحمداني (356 هجرية) بحلب، لكنَّه اكتفى منه بأربعة دراهم فضية لقوته اليومي، وكان يعتزل عند الرَّوابي ومساقط المياه مشغولاً بالتأليف، ولباعه في الموسيقى اختلقت له قصة إبكاء وإضحاك وتنويم مجلس سيف الدَّولة. 
كان الفارابي المثقف المخلص لفكره، خارج الانتماء القومي والدِّيني والمذهبي، ويخطئ مَن جعل للفارابي هويةً غيرها، فلو لبس غيرها ما كان بارقة نورٍ في تاريخ الشَّرق، فهو المسلم الذي تعلم الفلسفة والمنطق مِن مسيحيين، وهم أنفسهم لا يقدمون هذا الانتماء على انتمائهم الفكري والفلسفي. مع أنَّ هناك مَن جعل له مذهباً قياساً على مذهب مضيفه سيف الدَّولة (الأمين، أعيان الشِّيعة)، وآخر جعل مذهبه قياساً على انحداره البلداني، وأرى الاثنين لم يُقدرا الفارابي حقَّ قدره. 
تحدث الكازاخيون، المشاركون في النَّدوة، عن الفارابي بفخر كأنه ولد اليوم، لكنَّ الفارابي المثقف البارع كان ملكاً للإنسانيَّة، اتفق مع مَن ذمه ومَن مدحه، على أنَّه كان «حاد الذّكاء» (الذَهبي، سير أعلام النُّبلاء). تتلمذ لأفلاطون وأرسطو عبر كتبهم، وكان المسيحيان متى ويوحنا أستاذيه المباشرين، وتلميذه يحيى بن عدي المسيحي التّكريتي، وتلميذ كتبه ابن سينا المنسوب إلى الإسماعيلية. هكذا كان القرن العاشر الميلادي، وكانت بغداد، لكنَّ قياساً بما هي عليه، وما مرَّ عليها مِن موجعات الأزمنة الغابرة، أصبح اسم وفكر وليدها بالفلسفة صَدىً غريباً عليها. 
قيل كانت نهاية الفارابي بأيدي اللُّصُوص (339هجرية) خلال سفره (البيهقي، تتمة صوان الحكمة)، وقد يُعذر اللِّصُّ لجهله بعظيم مثل الفارابي، لكنّ بماذا يُعذر مثل أبي حامد الغزالي (ت: 505 هجرية) الذي اعتبره مِن «الأغبياء» جمعاً مع أترابه الفلاسفة (تهافت الفلاسفة)؟!