بعد الحرب العالمية الثانية، وبقيام أنظمة جديدة استوعبت الصدمة التي خلفتها الحرب الطاحنة التي راح ضحيتها أكثر من 55 إلى 70 مليون شخص، وكذلك وحسب أستاذ الاقتصاد السويدي «كارل غونار سيلفرستولبه»، الذي قدّر حجم الخسائر المادية بحوالي 100 إلى 200 مليار دولار، ظهرت عصبة الأمم المتحدة، وصندوق النقد الدولي، وتم إنشاء المحاكم العسكرية الدولية التي مهدت الطريق لإنشاء المحكمة الجنائية الدولية وصدر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في العام 1948، وقام في العام كله نظام عالمي جديد.
في هذه الأيام، وعلى وقع جائحة كوفيد- 19، التي تسببت بوفاة 1.5 مليون شخص لغاية ديسمبر 2020، وتسببت في خسائر فادحة للاقتصاد العالمي، قدرتها مديرة صندوق النقد الدولي، كريستالينا جورجيفا، أن تبلغ حوال 28 تريليون دولار، خلال خمس سنوات، أي بزيادة مضاعفة مئات المرات عن حجم الخسائر المادية للحرب العالمية الثانية، وتسببت أيضاً في تعطيل أكثر من 80 مليون موظف في الدول المتقدمة، بسبب إغلاق الشركات والمصانع وإجراءات الحظر التي سادت خلال الأشهر الماضية، ما زال العالم، يحاول إصلاح الخلل، بصورة بدائية، وكأنه خلل في محرك مركبة، ولا يعلمون أن المركبة كلّها أصبحت محطمة وتحتاج إلى تغيير!!
ما يحتاجه العالم اليوم، هو خطة حقيقية جديدة لإعادة إعمار العالم، وقيام نظام عالمي جديد، فبعد الحرب العالمية الثانية ظهر ما يعرف بتقرير «ويليام بيفردج»، الذي تحدث فيه عن «العمالقة الخمسة» وهي سوء الصحة وقلة التعليم والفقر والبطالة وسوء الإسكان، وذكر فيه أن معالجة هذه المشكلات العملاقة هو حجر الأساس لإعادة الإعمار بعد الحرب، وما يجري حالياً، وبالنظر إلى تقرير «النظرة المستقبلية» الصادر عن صندوق النقد الدولي، الذي ذكر فيه أن نسبة الديون العالمية قد اقتربت من 19 نقطة مئوية لتتجاوز بكثير الأزمة المالية العالمية في العام 2009، فإن هذا ينبئ بكوارث إنسانية، سواء في الدول النامية والفقيرة أو حتى في الدول المتقدمة.
لست عالم اقتصاد، ولكننا نقرأ الأرقام التي تؤسس لحالة الجوع والفقر والبطالة، وهي الطريق الوحيد لظهور العلل الاجتماعية كالجماعات الإرهابية ودعاة التطرف وأصحاب الفكر المنحرف، فهؤلاء يقتاتون على الكوارث المجتمعية ويبحثون عن الشباب المقهور غير المتعلم الفقير وينشبون أظافرهم في عقله، فيتحول بين ليلة وضحاها إلى إرهابي يريد الانتقام من المجتمع، ولن يكون مستغرباً أن تفرز جائحة كورونا التي فتكت بالعالم، جماعات إرهابية من كافة الأديان والطوائف والملل، وسيكون من الصعب جداً محاصرتها لاحقاً.
تقود الإمارات، وبفضل رؤية وتوجيهات صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، إعادة إعمار الشرق الأوسط، من خلال جهود السلام والتعايش السلمي والتآخي بين شعوب المنطقة، وهي بالتأكيد حجر الأساس للعالم أجمع، وقد تحقق الكثير لغاية الآن، وما زال العمل جارياً ومكثفاً على إعادة تأهيل المنطقة بما يضمن ألا تقع المزيد من الكوارث والحروب أو ظهور الجماعات الإرهابية، وتحتاج الإمارات، إلى جهود الجميع دون استثناء، للمساهمة في بناء هذه المنظومة الآمنة، كإنهاء الحرب في سوريا دون مماطلة، واستقرار العراق ولبنان، وعودة المفاوضات الفلسطينية- الإسرائيلية بما يضمن حل الدولتين، وكف يد أردوغان عن سوريا وليبيا والبحر المتوسط، ومحاصرة نظام الملالي وإيجاد صيغة توافقية في اليمن يرضى بها جميع الأطراف، ودعم استقرار مصر والأردن والسودان بمشاريع تنموية مستدامة، وعودة قطر إلى مجلس التعاون الخليجي بعقلية معتدلة قادرة على ضبط سلوكها بعدم التدخل في شؤون الآخرين.
إعادة إعمار الشرق الأوسط هو بمثابة إعادة إعمار العالم أجمع، وهي مهمة ليست مستحيلة على الإطلاق، فقد انتهت الحرب العالمية الثانية وتحقق بعدها الرفاه والاستقرار وتلاشى الخوف والجوع، وإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي، الذي دام سبعين خريفاً كان يحتاج إلى أكثر من معجزة، وها هو يتحقق الآن بكل دفء وهدوء، وستعمل الإمارات وأشقاؤها وأصدقاؤها وجميع الخيرين، على أن تنتهي جائحة كورونا بالحد الأدنى من الخسائر المتوقعة.
لسنا على مفترق طرق، إنما نمضي معاً على هذا المنعطف الحاد، والذي لا يحتاج أكثر من التوازن والثبات والإصرار على نجاح الخطة المقترحة لإعادة الإعمار والبناء، وتحقيق مستقبل أفضل للأجيال القادمة، خطة ضمان السلام والأمن والازدهار بالحد الأعلى من المعايير والمثل العليا.