من أبوظبي انعقد افتراضياً الملتقى التاسع لمنتدى تعزيز السلم الأسبوع المنصرم، وقد خصصت جلساته لموضوع قيم ما بعد كورونا من منظور أخلاقيات التضامن وروح السفينة التي رمز بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لوضع الترابط الموضوعي بين البشر. لقد كانت المشاركة واسعة رغم حساسية الأزمة الصحية العالمية ومصاعب التواصل المتولدة عنها، وقد عكست الموقع المركزي لأبوظبي بصفتها اليوم من العواصم الكونية الكبرى، وهي تتقدم على غيرها في حمل رسالة السلم والتسامح والتضامن.
لقد سبق للمنتدى الذي يرعى أنشطته سمو الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان وزير الخارجية والتعاون الدولي، ويشرف عليها العلامة الشيخ عبد الله بن بيه أن قدّم من قبل مبادرتين بارزتين في مجال الحوار الديني والحضاري، هما «إعلان مراكش» الذي كرس فكرة المواطنة المتساوية الشاملة باستلهام «صحيفة المدينة» التي كانت أول دستور للدولة المسلمة، و«حلف الفضول الجديد» الذي هو التعبير عن ضرورة قيام حلف أخلاقي كوني يجنب البشرية الصراع والصدام ويضطلع فيه رجال الدين من مختلف الأصول والخلفيات بدور محوري استلهاماً لإقرار النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الحلف الذي شهده قبل البعثة.
صورة السفينة كانت موفقة وكثيفة التعبير عن مقتضيات التضامن المطلوب راهناً بين الأمم والدول لتجنيب البشرية إحدى أخطر الأزمات التي مرت بها في العصور الحديثة.
لقد بدا لي في ورقتي التي قدمت للملتقى أن الفكر الإسلامي لم يستثمر القوة الرمزية والمفهومية لمقولة «الرحمة الإلهية» التي هي الصفة الإلهية الأساسية وإطار العلاقة الوجودية والتكليفية بين الحق تعالى وخلقه.
ومن المفارقات المثيرة أن هذا المفهوم بدأ يستثير اهتماماً واسعاً في الأدبيات المسيحية، بما يظهر في الرسالتين الهامتين اللتين كتبهما البابا الراحل «يوحنا بولس الثاني» والبابا الحالي «فرانسيس» حول الرحمة الإلهية خروجاً على تقليد لاهوتي قديم يتهيب وصف الرب بالرحمة لالتباسها بالهم والضعف.
أما في الإسلام الذي كانت رسالته «رحمة للعالمين»، حسب الآية القرآنية الكريمة، فلم تحظ المقولة بعناية مناسبة لدى المتكلمين والفقهاء الذين اختصروا مفهوم الرحمة في الإحسان والتفضل والجزاء العادل، لقد سيطر على العقل الكلامي الوسيط الجدل حول صفتي القدرة والعدل، دون انتباه إلى أن المسلك إلى رفع التعارض الظاهر بين استتباعات الصفتين هو الانطلاق من بعد الرحمة من حيث هي مظهر للقدرة الإلهية المطلقة في لطفها وخيريتها، كما هي جلاء العدل الإلهي الذي لا يمكن أن يفهم بمنطق التبادل والمقايضة والجزاء المقابل تلقائياً للعمل.
لقد حرص المتكلمون على تأويل آيات وأحاديث القرب والمودة والمحبة التي هي الوجه الآخر الملازم لمعاني التنزيه والمخالفة، فتأثروا بالتصور الفلسفي اليوناني لإله مفارق منفصل عن الوجود والإنسانية، بينما أخبر الله عن نفسه أنه أقرب إلى عبده من «حبل الوريد»، وجعل من مراتب الترقي والقرب أن يصبح الله «سمع العبد الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها».
إن هذه الخلفيات العقدية القوية هي ما يجب أن ننطلق اليوم منه في بناء سياسات تضامن حقيقية مع أمثالنا في الخلق «عيال الله» الذين هم كامل البشر. إن هذه السياسة كما تصورها البيان الختامي الصادر عن الملتقى تقوم على مرتكزين محوريين هما: إعادة بناء المقاربات التنموية على أساس مقتضى التضامن الإنساني، وبناء عقد اجتماعي كوني جديد وفق أخلاقيات الضيافة الإبراهيمية. 
وبخصوص المرتكز الأول، فالمطلوب هو تجاوز مفهوم «التنمية الإنسانية» الذي اعتمدته الوكالات الدولية لتخطي معايير النمو الاقتصادي والمالي، أي زيادة حجم الثروة والدخل الفردي والقومي، بغية إدماج أبعاد الرفاهية الاجتماعية والعدالة والإنصاف. وإذا كانت هذه الأدبيات كشفت عن أهمية العوامل القيمية والاجتماعية في عملية التنمية، فإنها ظلت حبيسة منطق المردودية والربحية دون اعتبار المعطيات القيمية الجوهرية ذات الصلة بالرابطة الإنسانية الكونية التي يجب أن تكون قاعدة وغاية الممارسة التنموية.
أما المرتكز الثاني فيتجاوز قيمتي العدالة والإنصاف ذاتهما، من أجل استكشاف مفهوم «الضيافة» الذي هو من القيم الحدية الرحبة، بل «المستحيلة» بلغة الفيلسوف جاك دريدا. إن أهمية مفهوم الضيافة هو أنه يسمح باستيعاب واحتضان الإنسان الذي ليس له إلا حرمة الوجه وكرامة الذات وإن فقد الوطن والمركز والهوية.. وفي عالم تتزايد فيه النكبات والكوارث تغدو الضيافة بالمعنى الإبراهيمي هي الاستجابة الفاعلة للمحنة الإنسانية.