صناعة المقاربات الاستراتيجية تستوجب اشتراطاتها الخاصة، وأولها البراغماتية السياسية، وإنْ كان لنا أن نستدل على وجود لمثل ذلك، فإن التفسير الوحيد للتطورات المتسارعة في منطقة الشرق الأوسط خلال النصف الثاني من العام، يعد المدخل، وتصفير الملفات العالقة هي التوطئة لتلك المقاربة الاستراتيجية، لما لها من اتصال مباشر بأكثر من ملف إقليمي وعربي. وبصورة أعم، فإن طي صفحة هذه الملفات يعد الاستباق الأمثل في احتواء التحولات المحتملة أو المرتقبة لعالم ما بعد جائحة كوفيد-19، وليس فقط ما قد تحدده إدارة الرئيس بايدن من أولويات للمنطقة. الملف اليمني، يجب أن يكون على رأس أولويتنا، ويتعين على الرئيس هادي التعاطي بمسؤولية أكبر في أمر إنفاذ بنود مصالحة الرياض وتشكيل حكومة وطنية قادرة على أن تكون شريكاً حقيقياً في عملية انتقال سياسي على أسس وطنية، وبما يخدم المصالح المشتركة لليمن ودول جوارها.
حتى الآن، تعد الإشارات العريضة الصادرة عن الرئيس «المنتخب» متسقة والموقف الخليجي من الملف النووي والسلوك الإيراني في عموم منطقة الشرق الأوسط، إلا أن ما يشغلنا هو الترجمة الفعلية لها، فالتعهد بوجود مقعدين (السعودية والإمارات) إلى طاولة أي مفاوضات مستقبلية مع إيران أمر محفز، إلا أن الشكل السياسي لتلك الطاولة يجب أن يكون من ضمن التوافقات المبدئية، وأن تتعهد إدارة بايدن أمام المجتمع الدولي، بألا تعود إلى توقيع مذكرات تفاهمات خاصة خارج إطار المفاوضات المباشرة كما فعلت إدارة الرئيس أوباما.

أما فيما يخص السلوك الإيراني في المنطقة وتأثيراته السلبية على الجهود الإقليمية والدولية من أجل إعادة الاستقرار للمنطقة، فإن ذلك يمثل تحدياً خاصاً، إلا أن التحول في الموقف الأوروبي وخصوصاً في ما يتصل بذلك بالإضافة لبرامجها الصاروخية، هو ما حدده وزير الخارجية الألماني شرطاً مسبقاً للعودة لأي طاولة مفاوضات مستقبلية.
أوروبا اليوم، باتت أكثر إدراكاً أن التصالح مع تاريخها السياسي يستوجب واقعية متناسبة وحقيقة الصراع الدائر بين الولايات المتحدة والصين، والذي امتد لحوض المتوسط دون احتساب مضار ذلك على الأمن الأوروبي، لذلك لم يكن تصريح المستشارة ميركل بمستغرب عندما قالت: «أوروبا لن تَعد كما كانت قبل أو بعد الرئيس ترمب»، وتصريح وزير خارجيتها أعلاه من إيران يؤكد على ذلك. 

إذن، نحن أمام تحولات تتيح في جملتها فرصاً غير مسبوقة للكتلة الخليجية بقيادة المملكة العربية السعودية، لإعادة التوازن في المنطقة عبر أكثر من محور، وأوروبا أكثر قرباً من منظورنا للراديكالية الإسلاماوية (تركيا / إيران ومن في حكمهما) نتيجة تقاطع مصالح ذلك الثالوث المتكافل سياسياً، وفي حال تجاهلت إدارة الرئيس بايدن ذلك الواقع، فإن جميع مقارباتها المستقبلية ستفشل، وتتعمق الهوة بين حلفاءها في الشرق الأوسط وأوروبا.

لذلك، علينا اليوم أن نعود للملف اليمني بمعطياته اليمنية لا من منظور أمنياتنا، لأن كلفة عدم الاعتراف بأن الأمر بات أعمق من إعادة الشرعية، قد يكلف المنطقة الكثير، بل سوف تتسبب في الإضرار بمسارات أخرى استراتيجية.

*كاتب بحريني