ما يفتأ الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن يؤكد في خرجاته الإعلامية أن الولايات المتحدة ستكون «مستعدة للقيادة» مجدداً على الساحة العالمية، وسيرجع لها دورها القيادي كما كان لها في السابق، كما تعهد بالعمل الدؤوب مع حلفاء واشنطن في الخارج. 
وفي معرض تقديم الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن لفريقه للسياسة الخارجية والأمن القومي، أشار إلى نيته بعد تولي السلطة في 20 يناير إخراج الولايات المتحدة من النهج الوطني أحادي النزعة الذي تبناه الرئيس الحالي دونالد ترامب، وبمعنى آخر فإن بايدن سيتبنى المدرسة الأوبامية التي كان جزءاً من تركيبتها. وقال بايدن، إن فريقه، الذي يضم «أنتوني بلينكن» مرشحه لتولي وزارة الخارجية ومساعده الذي يحظى بثقته، سينأى بنفسه عن «الفكر العتيق والأساليب القديمة» في استراتيجيته للعلاقات الخارجية.
وكل الاستراتيجيين الذين يقومون بتحليل السياسة الخارجية للولايات المتحدة في السنوات الأخيرة، يقولون إن استراتيجية ترامب كانت على مبدأ «أميركا أولاً» وعلى «مصلحة أميركا الاقتصادية أولاً»، وهي تتعارض مع القيم الاستراتيجية المشتركة التي جمعت كل رؤساء الولايات المتحدة الأميركية خلال السنوات المائة الأخيرة، وبمعنى آخر، فإن رؤية أميركا لنفسها وللعالم، كما جسدها أوباما في الماضي ويجسدها بايدن اليوم سترجع إلى الواجهة، كما أن الانكماش الاستراتيجي والتغيير التكتيكي الذي أوقف الكثير من الأمور في العلاقات الدولية سيتوقف.
الرئيس ترامب كان يرى نفسه رئيس شركة تملك العالم، بينما المدرسة الأوبامية تعتبر نفسها رئيسة لدولة عظمى هي دركي العالم وهنا الفرق! كل دولار تنفقه أميركا على المنظمات الدولية، وكل اتفاقية تجارية ولو كانت خاضعة للقواعد التجارية العالمية، كان يخضِعها ترامب لميزان «أميركا أولاً»، بينما كان أسلافه، وكذلك الرئيس الجديد، يعتبرون أنفسهم مقيدين بأعراف دبلوماسية واستراتيجية وتقاليد تفرض على الولايات المتحدة الأميركية وجوداً يصفق له في المؤسسات والمحافل الدولية، وتجعلها تحترم الاتفاقيات الدولية، وتسير على المألوف وتحترم التحالفات وبالأخص مع الدول الغربية. 
ونتذكر أنه منذ سنتين، في محاضرة له في جوهانسبيرج، حذَّر أوباما خلَفه ترامب من «أوقات غريبة وغامضة» يمر بها العالم ومن «سياسات الخوف والسخط» التي اعتبرها العديد آنذاك تلميحاً لسياسة ترامب. وانتقد أوباما هؤلاء الذين ينكرون تغير المناخ ويضعون سياسات هجرة عنصرية تستند إلى العرق، إضافة إلى الرأسمالية الجامحة و«سياسات الرجل القوي». وقال في بداية محاضرته: «بالنظر إلى الأوقات الغريبة والغامضة التي نعيشها، كل جولة أنباء يومية تأتينا بعناوين أكثر إثارة للغرابة والقلق، فكرت ربما أنه قد يكون من المفيد التراجع لبعض الوقت من أجل الرؤية من منظور آخر». وتابع: «هذا يعود في جزء منه إلى فشل الحكومات والنخب النافذة.. ما يجعلنا نرى الآن معظم العالم يهدد بالعودة إلى وسائل قديمة وخطيرة وأكثر وحشية في تنفيذ الأعمال».
وفي قضية الهجرة، بدا أوباما في محاضرته وكأنه يتوجه باللوم إلى سياسة ترامب عندما قال: «ليس من الخطأ الإصرار على أن الحدود الوطنية مهمة.. لكن هذا لا يمكن أن يكون ذريعة لسياسات هجرة تستند إلى العرق والإثنية والدين». وهاجم أوباما تشكيك ترامب والمحافظين الأميركيين في مسألة تغير المناخ في وجه الدلائل العلمية، وقال: «عليكم أن تؤمنوا بالحقائق، فبدون حقائق لا توجد أسس للتعاون». وأضاف: «لا يمكن إيجاد أرضية مشتركة عندما يقول أحدهم، إنه لا يوجد تغيّر مناخي، في الوقت الذي يخبرنا معظم العلماء في العالم بذلك». 
كل هذه الأقاويل والأفكار أضحت فيما بعد مكونات للحملة الانتخابية للرئيس المنتخب جو بايدن، ومن ثم مرجعية لإدارته المقبلة المكونة كلها من فريق يجسد حقيقة أن أميركا باتت على استعداد لاستئناف قيادتها للعالم، وليس الانسحاب منه.
لكل زمان رجاله، فالسنوات الماضية أعطت للأميركيين وللنظام الدولي الحالي رجل أعمال من طينة ترامب، قد لا تتفق مع سياسته الأغلبية من المحللين الاستراتيجيين في العالم، لكن كانت له سياسته ومزاجه الخاص، ويستعمل أدوات رجال الأعمال في الدبلوماسية والمفاوضات وغيرها. أما اليوم، فإن الإدارة الأميركية ستحتكم إلى جزء من العقلانية في تسييرها لشؤون البلد.