رسّخت الإمارات، عبر تراكم نوعي ومعرفي ما يمكن تسميته بالبنية التحتية للنهوض الثقافي المطلوب في الخمسين عاماً المقبلة، بدأنا في التأسيس الثقافي منذ قيام دولة الاتحاد في الثاني من ديسمبر 1971، عبر المؤسسات الوطنية والأهلية والرسمية وعملها وأنشطتها، وانتقلنا بسرعة بين عدة رؤى ومفاهيم حول دور الثقافة في حياتنا، ومثل بقية الدول تجاذبنا بين تيارات الحداثة والمعاصرة، والتجديد والمحافظة على التراث، وغيرها من الاستقطابات الثقافية التي تفصل المجتمع إلى وجهتي نظر متضادتين، ولكن بمرور الزمن، ونتيجة لسياسة الانفتاح الثقافي، بدأت هذه الفروق تتضاءل تدريجياً، وأصبحت كل التيارات الفنية والفلسفية والأدبية، تجد مكانها المناسب والحقيقي من غير أن يلغي أي منها الآخر. وسمح هذا للأصوات والأفكار الثقافية أن تتجاوز محليتها الضيقة، وأن تبحث لها عن أفق أوسع عربياً وعالمياً، وهذا بدأ في التحقق في السنوات العشرين الأخيرة بقوة عندما أصبح صوت الإمارات الثقافي حاضراً في المحافل العالمية، سواء على مستوى الفن البصري، أو الأدب أو الحوار الحضاري، ثم توجت هذه الخطوات بإنشاء مجلس الإمارات للقوة الناعمة لتنظيم هذه الجهود والابداعات، وجعلها تصب لمصلحة نهوض الإمارات كبوابة ثقافية للعالم العربي، وعاصمة ثقافية عالمية، وبالفعل يمكن أن نقيس الخمسين عاماً الماضية من هذا الأفق، ونقول شكراً على كل هذه الجهود.
اليوم، ونحنُ نعبر إلى الخمسين الثانية، نجد أن الثقافة أصبحت تحتل مرتبة الصدارة في الاهتمام، كان التركيز في الماضي على ترسيخ قواعد الاقتصاد باعتباره العصب الحيوي، لكن اليوم تتقدم الثقافة لتقود الاقتصاد بعد أن توجه العالم إلى اقتصاد المعرفة والاستثمار في مشاريع الإبداع والابتكار والتطوير، وهي مفاهيم تجد جذرها في (الروح الثقافية) التي يجب أن يتحلى بها المجتمع المدني، وهي تقوم على تعزيز قيم التسامح والقبول بالحوار مع العالم ونبذ التطرف والتأكيد على التعايش المدني المدعوم بقوانين تجرّم العنصرية، وتعزز الحرية الفردية. ومن هذه الرؤية العميقة في توجهها نحو الإبداع بلغة عالمية، يجب أن تبدأ المؤسسات الثقافية والإعلامية بالعمل، نريد أنشطة أكثر على المستوى العربي والعالمي، نريد أن يشارك جميع المواطنين والمقيمين على اختلافهم في صياغة خطابنا الثقافي في المرحلة المقبلة، نريد أن يتحول كل يوم من أيام الإمارات إلى مهرجان ثقافي ترتفع فيه شعلات التنوير لتصبح سماء الوطن مظلة الوعي الجديد والأمل الجديد للثقافة في المنطقة.