بقي السؤال عن عوامل التقدم الغربي والتأخر في العالم الإسلامي، موضع جدل منذ أن أثاره الكاتب المصري عبد الله النديم عام 1893 في دراسته «بِم تقدم الأوروبيون وتأخرنا والخلق واحد؟». وأُعيد طرح هذا السؤال مرات بعد ذلك بصياغات مختلفة من أشهرها عنوان كتاب الأمير شكيب أرسلان «لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟» الصادر عام 1939. وكان المقصود بالآخرين في تلك المرحلة أوروبا خاصة والغرب عامة.
لكن التقدم لم يعد مقصوراً على الغرب، إذ نهضت دول عدة في مناطق مختلفة من العالم بدرجات متفاوتة خلال العقود الأخيرة، الأمر الذي يزيد أهمية السؤال عن حالة معظم العرب حتى الآن. ولم يعد ممكناً، بعد أكثر من قرن على إثارة السؤال عن عوامل تأخر العرب إغفال أو إنكار أن حالة العقل تُعد المدخل الأساسي للجواب عن هذا السؤال. ولم يعد صعباً إدراك أن جموداً فكرياً شديداً كان العامل الرئيسي وراء استمرار التأخر. فقد أضعف هذا الجمود القدرة على التفكير في قضايا كبرى، أهمها المسألة الدينية، وفي القلب منها العلاقة بين الدين والدولة والمجتمع.
كانت مجتمعاتنا غارقة في أفكار تقليدية قديمة ارتبط كثير منها بخرافات وأساطير غُطيت بتفسيرات دينية مجافية لصحيح الإسلام، في الوقت الذي كانت أفكار جديدة تؤذن ببناء عالم مختلف انطلاقاً من أوروبا. لم يعرف الشرق ما يماثل عصري النهضة والتنوير الأوروبيين، ولم يظهر فيه بالتالي مفكرون وفلاسفة من النوع الذي جعل الفكر قاطرة للتقدم.
وعلى سبيل المثال، دكت أفكارٌ جديدة حصونَ هيمنة الدين على السياسة والمجتمع في أوروبا، الأمر الذي أدى إلى حل المسألة الدينية التي بقيت عائقاً أمام التقدم في معظم بلدان الشرق، خاصة في منطقتنا. ولم يعرف الشرق فلاسفة مثل الهولندي باروخ سبينوزا الذي وضع في وقت مبكر (منتصف القرن السابع عشر) أساساً أول لحل تلك المسألة في الغرب. ولم يكتب أحد في الشرق كتاباً مثل «مقال في اللاهوت والسياسة» الذي فكك فيه سبينوزا نصوصاً لاهوتية تقليدية، وفتح الطريق أمام تجديد فكري حقيقي جعل العلمانية بمستوياتها المتعددة ممكنةً في الغرب. 
لقد كان الجمود الفكري، ولا يزال، الآفة الأكثر خطراً والعائق الأشد قوة أمام التقدم. وهذا ما نبّه إليه، وحذّر منه، بعض الرواد الذين كانت أفكارهم استثناءً هامشياً من هذا الجمود في أواخر القرن التاسع عشر والنصف الأول في القرن العشرين. ومنهم سلامة موسى، أبرز مفكري الجيل الثالث في مسيرة الفكر النهضوي الذي بدأت بشائره في منتصف القرن التاسع عشر مع رفاعة رافع الطهطاوي وخير الدين التونسي وبطرس البستاني.. لكنه كان الأكثر اهتماماً بالتعريف بالنهضة الأوروبية التي وجد فيها نموذجاً يمكن الاستفادة منه، إن لم يتسن الاقتداء به لاختلاف الزمان والمكان والظروف. فقد أصدر كتاباً صغيراً في هذا الموضوع نُشر للمرة الأولى عام 1935 تحت عنوان «ما هي النهضة؟»، وسعى فيه إلى تبسيط تاريخ النهضة الأوروبية الذي رأى أنه تضمن موجتين كبريين، إحداهما كانت تنحو نحو التاريخ والنقد الديني وفنون الإغريق والرومان، والثانية كانت تنحو نحو العلم وقوامها التجربة وقلة الإيمان بفائدة التقاليد القديمة، والجرأة على الابتكار والتجديد.
لكن أهم ما عُني به موسى إنهاء هيمنة رجال الدين على السلطة في المجتمع، والفصل بين العقائد الثابتة والسياسة المتغيرة. لكنه لم يكن متفائلاً بتحقيق ذلك، وهو الذي وجد معظم النخبة الثقافية في حالة مراوحة بين ما أسماه «حيوية جديدة في بلادنا تُجدد القيم والأوزان في معاني الحياة والاجتماع والترقي»، وما رأى أنها «حالة اختلاف وارتباك وتردد لا نعرف في ظلها هل نأخذ بالقيم القديمة أم الجديدة». وهذا يفسر تحذيره، الذي يمكن أن ننظر إليه أيضاً بوصفه نبوءة تحققت إلى حد كبير، إذ نبّه إلى أن «أسوأ ما أخشاه أن ننتصر على المستعمرين ونطردهم، وأن ننتصر على المستغلين ونُخضعهم، ثم نعجز عن أن نهزم القرون الوسطى في حياتنا، ونعود إلى القديم، ونُعيد مأساة بسماتيك».
وبسماتيك هو مؤسس الأسرة الفرعونية السادسة والعشرين، الذي سعى إلى التجديد، لكنه انتهى إلى إعادة إنتاج تقاليد كان قد مضى عليها في عصره أكثر من ألفي عام، مثل دفن الموتى في أهرامات، فيما كانت الحاجة شديدة إلى أفكار جديدة في ذلك العصر.