شهد النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية استقراراً في الحدود السياسية بين وحداته، حتى تلك التي اصطنعها الاستعمار واستمرت بعد نيل الاستقلال. ذلك لأن تغيير هذه الحدود كان من شأنه أن يحدِث اضطراباً هائلاً. وفي القمة الأفريقية التي ناقشت في مطلع ستينيات القرن الماضي ميثاق منظمة الوحدة الأفريقية، اعترض بعض الدول على مبدأ «قدسية الحدود القائمة»، على أساس أن كثيراً منها وُضِع بمعرفة القوى الاستعمارية، لكن آخرين أصروا على أن القول بغير ذلك سوف يفتح الباب لجحيم من الحروب. وساد منطق الاستقرار على غيره. والواقع أن عالَم ما بعد الحرب العالمية الثانية في ظل سيادة نموذج القطبية الثنائية والاستقطاب الحاد بين القطبين الأميركي والسوفييتي قد شهد استقراراً للحدود السياسية القائمة بين الدول، لأن المساس بالسلامة الإقليمية لأي دولة كان يُتَرجم فوراً لمصلحة أحد القطبين وبالتالي لا يمكن للآخر أن يسمح به. لكن تفكك الاتحاد السوفييتي كان بدايةً لمرحلة جديدة برزت فيها الاعتبارات العرقية كأساس لرسم حدود سياسية جديدة، فقد تفكك إلى 15 دولة بعدد الجمهوريات التي كان يتكون منها، والتي بُنِيَت أصلاً على أسس عرقية. وامتد التفكك لاحقاً إلى دول أوروبا الشرقية بعد أن زال عنها الغطاء السوفييتي، فانقسمت تشيكسلوفاكيا إلى دولتين، ويوغسلافيا إلى ست، ولاحقاً وصل التفكك إلى منطقتنا العربية بانفصال جنوب السودان عن شماله في عام 2011، ومحاولة أكراد العراق الذين حصلوا على وضع فيدرالي بعد الغزو الأميركي الانفصالَ في 2017، وكذلك سعي أكراد سوريا للحصول على حكم ذاتي يمكن أن يمهد للانفصال.. غير أن التفكك سرعان ما أفضى في بعض الحالات إلى مزيد من التفكك نتيجة للاعتبارات العرقية ذاتها، بالإضافة إلى تدخل عوامل خارجية. فقد اعترفت روسيا باستقلال أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا عن جورجيا في 2008، وضمت في 2014 شبه جزيرة القرم التي كانت تتبع أوكرانيا كجمهورية سوفييتية منذ خمسينيات القرن الماضي.
وليس الصراع الذي دار مؤخراً بين أذربيجان وأرمينيا بالظاهرة الفريدة إذن، وإنما هو استنساخ لمحاولات المواءمة بين «الحدود العرقية» و«الحدود السياسية» إذا جاز التعبير، فإقليم ناجورنو كاراباخ المتنازع عليه، هو بالقانون جزء من أذربيجان منذ كانت جمهورية سوفييتية، لكن الغالبية العظمى من سكانه بالعرق أرمنيون، وعليه جاءت محاولاتهم بدعم من أرمينيا الاستقلال عن أذربيجان، ونجحوا في ذلك عام 1994 بعد حرب طاحنة، ومن هنا الجدل بين الأسس القانونية التي تؤيد تبعية إقليم ناجورنو كاراباخ لأذربيجان والأسس العرقية التي أُعملت في سوابق عديدة لتغيير الحدود السياسية، كما في كل الأمثلة التي سبقت الإشارة إليها. والمشكلة أن عدم مطابقة الحدود السياسية للحدود العرقية تسبب اضطرابات وقلاقل تهدد الاستقرار، وفتحُ الباب للاعتبارات العرقية كأساس لرسم حدود سياسية جديدة، يفضي لموجات هائلة من الاضطرابات الداخلية والإقليمية والدولية، كما حدث في النزاع الأخير بين أذربيجان وأرمينيا، فالأصل فيه أنه نزاع داخلي بين الأقلية الأرمينية التي تقطن في ناجورنو كاراباخ، لكن لهذا النزاع بعده الإقليمي المتمثل في تأييد أرمينيا لأبناء الإقليم وتأييد تركيا لأذربيجان كجزء من مشروعها للهيمنة الإقليمية، أما البعد الدولي فكان شديد الوضوح، بالنظر إلى المصالح الدولية المتأثرة بالصراع. والمشكلة أن إبقاء الإقليم تحت السيطرة الأذرية أو الأرمينية ليس حلاً في حد ذاته، وربما يكمن الحل في تمتع الجميع بحقوق المواطنة المتساوية. غير أن تطبيق هذا على أرض الواقع ليس بالأمر اليسير، على ضوء تعقيدات البنى المجتمعية والتدخلات الخارجية التي لا تحركها إلا مصالحها. لذلك، فإن هذه المشكلة تستحق اهتماماً حقيقياً لأنها يمكن أن تكون مصدراً لعدم استقرار هائل، لو تُرِكت دون حل.