في عام 1988 وقعت الحرب الأولى بين الدولتين الجارتين أذربيجان وأرمينيا اللتين كانتا جزءاً من الاتحاد السوفييتي السابق، كانت الغلبة لأرمينيا في تلك الحرب، فتهجّر مئات الآلاف من الأذريين من منطقة ناغورني كاراباخ، وهاجر إليها مئات الآلاف من الأرمن، وهكذا تغيرت هويتها الديموغرافية.
لم يعترف المجتمع الدولي بشرعية الوجود الأرمني هناك، ولذا عجزت أرمينيا عن ضمّ الأراضي إليها، كل ما فعلته هو تشجيع الأرمن على الاستقرار فيها لفرض أمر واقع مع مرور الوقت، وهكذا تحولت المنطقة في شمال أذربيجان إلى قنبلة موقوتة، كانت «شوشا» مدينة أذرية تحتل موقعاً استراتيجياً في المرتفعات الجبلية، فحوّلها الأرمن إلى «شوشي»، أما الآن وقد استعادتها القوات الأذرية، فقد أعادت إليها اسمها السابق، ويلخص تغيير الاسم قصة الصراع بين الدولتين، لكن المشكلة لم تبدأ هنا، ولن تنتهي هنا أيضاً، فتحتَ مظلة عدم اعتراف الأمم المتحدة بشرعية «السيطرة الأرمينية»، أطلق الرئيس الأذري علييف عملية «تحرير الأراضي»، فكانت المعارك الدامية التي استدرجت كلاً من روسيا وتركيا إليها، والتي أدّت إلى سقوط كثير من القتلى والجرحى على الجانبين، وإلى دمار واسع في العديد من البلدات والقرى.
وكما خسر الأذريون الحرب الأولى في عام 1988 واضطروا إلى الخضوع للأمر الواقع بخسارة مساحات واسعة من أراضيهم، خسر الأرمن الحرب الثانية هذا العام، بعد ستة أسابيع من القتال، واضطروا –بموجب التسوية الروسية- إلى الخضوع للأمر الواقع الجديد بإقرار حق أذربيجان باستعادة أراضيها.
وهكذا استرجعت أذربيجان بلدات وقرى مدمَّرة ومحروقة، مما حوّل فرحة النصر إلى عبء مالي واقتصادي ثقيل لإعادة الإعمار والتوطين من جديد.
أما الرابح الأول فهو الكريملين الذي أعاد القوات الروسية إلى جنوب القوقاز بعد أن انسحبت منه عقب سقوط الاتحاد السوفييتي السابق وتفتّته، وهذا يعني أن المنطقة عادت من جديد ملعباً لروسيا، وهي منطقة هامة لمرور أنابيب النفط والغاز من الشرق إلى الغرب، كما أنها هامة أيضاً لطريق الحرير التي أطلقتها الصين، وحتى للتطلعات التركية الدائمة نحو دول آسيا الوسطى.
حدث كل ذلك في ظل غياب كامل للولايات المتحدة التي كانت غارقةً في تداعيات الانتخابات الرئاسية، وللاتحاد الأوروبي الذي كان غارقاً هو الآخر في تداعيات انتشار وباء «كوفيد-19» (كورونا).
ولأول مرة منذ أكثر من قرن من الزمن، وتحديداً منذ عام 1920، تقف اليوم قوات روسية وتركية جنباً إلى جنب، وفي معسكر واحد، في هذه المنطقة الاستراتيجية التي كانت نقطة صراعات دامية بين الإمبراطوريتين القيصرية الروسية والعثمانية التركية، ولم تشهد توافقاً بينهما مرة واحدة في التاريخ إلا بين فلادمير لينين ومصطفى كمال أتاتورك، وهو التوافق الذي سقط في الحرب العالمية الثانية.
ومن هنا، يشكل تاريخ التاسع من نوفمبر 2020، محطة بارزة في تاريخ هذه المنطقة الوعرة والمتنازع عليها في جنوب القوقاز، فالتسوية الأرمينية الأذرية لم تؤدِ فقط إلى عودة القوات الروسية إليها، ولكنها أدت فوق ذلك إلى تثبيت أقدام فلاديمير بوتين في المنطقة الممتدة من البحر الأسود جنوباً حتى أعالي القوقاز شمالاً.
إن نص التسوية الروسية بين أرمينيا وأذربيجان يقع في صفحة واحدة فقط، غير أن نتائجه وأبعاده السياسية والاستراتيجية تحتاج إلى مجلدات.