كان العنوان سيصبح صارخاً أكثر لو كان «الرأسمالي الاشتراكي» لأن التناقض حينها سيكون واضحاً وشبه مستحيل التحقق في الذهن فضلاً عن الواقع، وعلى الرغم من ذلك فقد أصبحنا نرى هذه الظاهرة واضحةً في العالم وبخاصة في أميركا.
يحلو للرئيس الأميركي دونالد ترامب تسمية خصومه من الحزب «الديمقراطي» بالاشتراكيين، ويقصد تحديداً أصحاب التيار الأوبامي الجديد داخل الحزب «الديمقراطي»، والحديث هنا لا يُراد به بعض الاشتراكيين الصريحين مثل «بيرني ساندرز»، ولكن المراد هو طبقة من التجار الرأسماليين والمليارديرات الجدد في أميركا والعالم، وبالذات أولئك الذين تشكلت ثرواتهم بناء على مواقع التواصل الاجتماعي وتقنيات «السوشيال ميديا».
عدد من هذه الطبقة الثرية من التجار لديهم قناعات راسخة بعدم أهمية الدول وقوانينها، ويسعون جهدهم للتخلص من أي سلطة تلزمهم بأي مصالح للدول والشعوب، للسياسة والأمن، والقضايا بينهم وبين الأجهزة الأمنية مستمرةٌ منذ سنواتٍ داخل أميركا. والمحاكم هي الوحيدة القادرة على إلزامهم بالخضوع للقوانين ومراعاة الاشتراطات الرسمية والأمنية، وإجبارهم على المشاركة في حماية الناس من شرور الإرهاب، والقضايا معروفة.
كثيرٌ من هؤلاء المبتكرين لتلك المواقع شباب صغير السن قليل التجربة، وقد أصبحوا بسببها من أصحاب المليارات، وهم في الغالب قليلو التحصيل العلمي ومعرضون للدعايات الحماسية والعاطفية والشعاراتية، التي لا يتقنها أحدٌ مثل اليساريين، وبالتالي فكثير منهم انخرط في الفكر والتيار اليساري، دون أن يستشعر أي تناقضٍ بين سلوكه الرأسمالي الجشع وبين تفكيره اليساري الطوباوي. وبالتأكيد فالمهم لدى هؤلاء ليس التوافق الفكري، وإنما جمع الأموال بكل سبيل ممكن.
اليسار وشعاراته يمنحان هؤلاء الرأسماليين شعوراً كاذباً بالتطهر الأخلاقي. لكن من دون أي تبعاتٍ ودون أي التزامٍ، فالشيوعيون منظمون، والاشتراكيون ملتزمون، ولكن الانتماء لليسار كفكرٍ وتيارٍ، لا يلزم أحداً بما يخالف مصالحه. وبالتالي، فقد أصبح سهلاً على هؤلاء التجار الجدد الحديث عن الفقر والفقراء، ورفع شعارات الجماهير والدفاع العام عن مصالح الضعفاء، دون أي دافع للمشاركة بأموالهم في رفع معاناة هذه الطبقات.
كانت فترة الرئيس ترامب فترةً كاشفةً لهذا التيار اليساري الليبرالي، وبالذات في الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، فقد كان الانحياز ضده ورفض المهنية والاحترافية، بل والتحايل على القوانين، سمةً بارزةً لكل الطيف الذي حاربه.
«الرأسمالي اليساري» هو تعبير يحتوي على شيء من التناقض، ولكنه تعبير أقرب ما يكون لوصف الواقع، وغالب الطبقة التي يمثلها لا عناية لها بالعلم والفكر والمعرفة إلا فيما يخدم المصالح المالية، ويرفع الأرباح، وبالتالي فهم لا يستوعبون التناقض الذي يقعون فيه والذي يمثلونه، وهذا شأن الباحثين والمفكرين حينما يحللون مثل هذه الظاهرة، ويأخذون الشريحة المعنية كعينات اختبارٍ لتقديم أوصافٍ علمية تكون صادقةً أكثر وكاشفةً عن أسباب وخلفيات ظهور مثل هذه الطبقة.
كثيرٌ من هؤلاء التجار الجدد يفرحون بنشر الفوضى وتخريب استقرار الدول التي لا تتناسب مع يساريتهم المدّعاة، ويتحالفون مع أي سياسي يقدم لهم ما يريدون، ويهاجمون بضراوة كل الساسة والأنظمة السياسية غير اليسارية من خلال وسائلهم كافة، كوسائل الإعلام أو مواقع التواصل الاجتماعي، أو غيرها من وسائل التأثير التي يمتلكونها.
الجاهل لا يعلم حجم جهله، وبالذات حين يعتقد أنه بالثراء المادي وحده قادرٌ على التأثير في الأفكار والثقافات والسياسات، لا في الاقتصاد فحسب، وبالتالي يتكبر على العلماء والمفكرين والساسة فقط، لأنه قادر على جمع أموال أكثر منهم، وهو كبرٌ يدفع له الثراء مع الجهل.
أخيراً، فمن الطبيعي أن تنتشر هذه الظاهرة في العالم، وسنشهد له انتعاشاً في السنوات القادمة، وهي بحاجة للرصد والتحليل والدراسة.