كانت الدنيا لا تسعه وهو يعجن الكعك، فهي المرة الأولى التي يسمح له بأن يستخدم أدوات المطبخ ويبدأ بنفسه بلمس المكونات، كسر البيض وخضه وسكب السكر والطحين، وبغض النظر عن طعمه، إلا أنها كانت لحظة تاريخية سيبقى يذكرها باقي حياته، هكذا فعل الطفل الذي بدأ العودة للتو لصفوف الدراسة بعد غياب طويل مؤلم بسبب "كورونا". سألته ببساطة، من تحب أن يأكل من هذا الـ«الكوكي»؟! قال وقد فتح عينيه كشمسين صغيرتين، مستر «كريس». فهمت منه أنه يحب تدريسه ويحصل على درجات مميزة لديه، وبالفعل ذهب إلى معلمه بالكوكي في صباح اليوم التالي وهو في قمة السعادة. لم أذكر الموضوع إلا بعد يومين تقريباً، فسألت الصغير: هل أعجب البسكوت أستاذك؟ فأجابني دون أن يرفع عينيه تجاهي، «لم يأخذه.. مسوي دايت».

لم أعلق مع الصغير حول الموضوع، فما جدوى تأكيد الذكرى! ولكني تساءلت إذا كان هذا الأستاذ "المفضل" لديه أدنى فكرة عن أثر صده «المؤدب» للصغير الذي كان محلقاً وهو في غاية الفخر بما صنعت يداه؟ وهل يعلم المعلم «كريس» أن هذا الصغير الذي خصه ليتذوق ما صنعه، لن يذكُر بعد سنوات درجاته المميزة في الورق الدراسي -لأنه سيحقق بإذن الله نجاحات مادية كثيرة من هذا القبيل- فيما كلمة صغيرة مشجعة عن «الكوكي» لو قيلت له -ولو مجاملة- كانت ستبقى سنوات طويلة مديدة لن تمحيها أي ذكرى أخرى؟!
في فوضى الحياة التي تدور حولنا، وانغماس العالم في الماديات أصبح كل شيء غير قابل للقياس أو اللمس ليس محل اهتمام، كـتطييب النفوس وجبر الخواطر رغم عظم أثره، ولعل ما شهدناه خلال العام الجاري من ظروف كان لها أثر كبير على الصحة العامة بكل تأكيد، كوننا انشغلنا كثيراً بالعالم المادي، الذي ما انقطعت العلاقة معه بسبب الحجر والخوف من «كوفيدـ19» وجدنا أنفسنا نعاني تداعيات حادة على صحتنا النفسية، فمع غياب المكافآت المادية التي اعتدناها من الآخرين أو حتى انعدام فرصة استمتاعنا بها، اكتشفنا أن نفوسنا تحتاج الي ما هو أبعد بكثير ماديات هذا العالم. تحتاج إلى تجبير وتطبيب مختلف.. شيء أكثر عمقاً، وحقيقة.. وديمومة. كما كنت أتمنى أن  يحدث مع صغيري.