قبل أيام تشاركْتُ مع الزملاء في مركز الموطَّأ (معهد إعداد العلما الإماراتيين) في ندوةٍ عن بعد حول فكر الشيخ العلاّمة عبد الله بن بيه استمرت ليومين، وانصّبت على العالَم الفكري والفقهي للشيخ بمنظوراتٍ متعددة، وآمُلُ أن تصدر أعمال تلك الندوة في كتابٍ يفيد منه أهل الاجتهاد والتجديد. 
لقد رأيتُ في محاضرتي بالندوة أنّ قلب المنظومة في فكر الشيخ كانت أُطروحة «التكليف والوضع»، فالتكليف هو الخطاب الإلهي، والوضع أو تحقيق المناط هو الآلية التي تتنزل من خلالها النصوص على الوقائع، فيجري النظر في المضامين والنوازل والسياقات، كما يجري ضمّ المصالح لتنبعث الحيوية المتجددة في قلب المنظومة هذا، ومن خلال تفحص الوضع المنظور إليه في ضوء المصالح المعتبرة، يتبين أن المتغيرات صارت من الكثرة، بحيث ما عاد ممكناً ولا كافياً الارتكان أو الارتكاز إلى الاجتهاد المصلحي في مقاربة الجزئيات، وما فارق الشيخ المنظومة الفقهية الكلاسيكية، بل اعتبرها باقيةً وصالحةً للفحص والاختبار والتشخيص، ومضى باتجاه الكليات القرآنية، والشيخ يعتبر هذه العملية تأصيلاً، بينما أنا أرى أنه أليقُ بهذه النقلة اعتبارها تأسيسيةً، استخرج الشيخ من القرآن أحد عشر كلية مثل المساواة والكرامة والبر والرحمة والسلم والعدل والصلح، ومن المعروف أن الكليات يقينية عند المناطقة والفلاسفة وعلماء أصول الفقه، كما أنها قابلة للزيادة ودائماً بالعودة إلى مقتضيات الوضع، ولذلك تحدث الشيخ أيضاً عن كلي العصر والزمان.
وهكذا، واستناداً إلى الكليات والقيم، ولكي لا تبقى تجريدية، مضى الشيخ من القيم والكليات التأسيسية إلى التأويليات، فاستند في إقامة وشرعنة الدولة الوطنية المدنية الحدثية والدستورية إلى صحيفة المدينة التي وضعها الرسول صلى الله عليه وسلم في الشهور الأولى لوصوله المدينةَ بين سكانها والمهاجرين واليهود، وكل من أراد الدخول في هذا العقد أو الدستور باعتبار أنهم جميعاً باختيارهم وقرارهم يشكلون «أمةً من دون الناس»: «للمسلمين دينهم ولليهود دينهم»، إنّ هذا التأويل أو هذا الانتقال يستظلُّ بالطبع بكلي العصر والزمان، ويستند للتشابه الشديد بين دستور المدينة ومجتمعها وأوضاع الدول الوطنية المعاصرة التي يتساوى فيها المواطنون في الحقوق والواجبات، بغض النظر عن الدين أو العرق أو الإثنية. 
ومن كليات القرآن ودستور المدينة، مضى الشيخ إلى مقاربةٍ أخلاقيةٍ واسعةٍ لمواجهة مشكلات العالم، وتمثّل ذلك في ميثاق حلف الفضول الجديد، وهذا بدوره انتقالٌ تأويليٌّ مسوَّغ، فأطراف حلف الفضول هذا قبل الإسلام، تعاقدوا وأرادوا من وراء ذلك حماية الغريب والضعيف ومهضوم الحق بمكة من الواردين إليها، وقد أقرّه صلواتُ الله وسلامه عليه، بسبب طبيعته الأخلاقية السامية، فلماذا لا تستند فضائل وحقوق الجوار والضيافة والمواطنة إلى شاهدٍ تاريخي أسَّس لاعتبار هذه القيم السامية؟
وتبقى تأويليةٌ انتقاليةٌ ثالثة وهي مَثَلُ السفينة الواحدة الذي ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم لوحدة البشرية وجوداً ومصائر، ومعنى ذلك رفع شعار المسؤولية الإنسانية الشاملة، التي تتناول الأفراد والجماعات. 
إنّ قلب المنظومة هو التكليف والوضع وتحقيق المناط واعتبار المصالح، أما جناحاها فهما الكليات والقيم القرآنية من جهة، وأخلاق المسؤولية من جهةٍ ثانية، شأن ركاب السفينة الذين يوحدهم المركب الواحد والمصير الواحد. 
إنه تغييرٌ في رؤية العالم، ذلك الذي يقوم به الشيخ عن طريق الكليات والقيم، والتأويليات. وهو سبيلٌ فكري ما عاد يمكن التخلي عنه للدخول في عالم العصر وعصر العالم. 

*أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية