الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الترفيه

معضد الكعبي.. شاعر رثى نفسه

معضد الكعبي.. شاعر رثى نفسه
21 نوفمبر 2020 00:21

إبراهيم الملا

«يا هلي لا لا تلوموني           واحفظو منظوم لوصايه
شرق دار العين دفنوني         في محضه داري ومربايه
وكفنوني بثوب مضنوني      واسكبو عطره على أعضايه
وإن طلبني حد مديوني         خلصوها وإقضو الحايه».

«يا هلي» للشاعر الكبير، الراحل معضد بن ديين الكعبي «1948 - 1994»، ضمن قصائد عديدة رثى الشاعر فيها نفسه، ووثّق فيها وصاياه، وكأنه يستشرف نهايته المبكرة، حيث رحل عن عالمنا وهو في السادسة والأربعين، وهو في أوج عطائه الشعري، وفي قمة نضجه الإبداعي، رغم أن الدرب كان ممهداً له لتقديم روائع شعرية يتوّج به مسيرته المكثفة والمضيئة في خضم البحر الواسع والمترامي الأطراف للقصيدة النبطية، وبمختلف أغراضها وأنواعها واشتقاقاتها، ولكن الوقت لم يمهله للوصول لهذا المطلب، ورغم ذلك، فإن ما قدمه الكعبي من نتاج شعري في هذه الفترة القصيرة من عمره، كان هو النتاج الأكثر غزارة وتميزاً مقارنة بمجايليه وأقرانه من الشعراء، واتسم شعره بمواصفات أسلوبية فريدة أكسبته المكانة العالية التي يستحقها، وجعلت شعره مطلوباً ومرغوباً لدى متذوقي الشعر النبطي، وكذلك امتلك شعره الحظوة والقبول لدى العديد من المطربين والملحنين الإماراتيين في الستينيات وحتى أواسط الثمانينيات من القرن الماضي، ونذكر من هؤلاء المطربين: سعيد الشراري، وسعيد سالم، وميحد حمد وغيرهم. 

في «يا هلي» نجد هذا التناصّ  والتلاقي والتداخل بين أبيات الكعبي، وبين القصيدة المشهورة للشاعر مالك بن الريب التي رثى فيها نفسه بعد أن لدغته أفعى في الصحراء، والتي يقول في مقاطع منها:
ولمّا تراءتْ عند مَروٍ منيتي
وحلَّ بها سقمي، وحانتْ وفاتيا
فيا صاحبَيْ رحلي دنا الموتُ فانزِلا
برابيةٍ إنّي مقيمٌ لياليا
ولا تَنْسَيا عهدي خليليَّ بعد ما
تَقَطَّعُ أوصالي وتَبلى عِظاميا
يقولون: لا تَبْعَدْ وهم يَدْفِنونني
وأينَ مكانُ البُعدِ إلا مَكانيا
إذا مُتُّ فاعتادي القبورَ وسلِّمي
على الرمسِ أُسقيتِ السحابَ الغَواديا.
نرى أن ثمة قرباً وتواشجاً بين القصيدتين في سياق المعنى العام، والمرتبط بالموت ارتباطاً وثيقاً، وهذا الإحساس بدنو الأجل والذي يخترق الأزمنة، ويحلق فوق الأمكنة، ويستعيد الذكريات المزدحمة في لحظة خاطفة، يعبّر وبقوة عن امتلاك الشاعرين لنفاذية البصيرة، وشفافية التوقّع، وجرأة المكاشفة.
وفي قصيدة أخرى يرثي فيها الكعبي ذاته، نجد هذه المقاطع المؤثرة التي يقول فيها:
اشوفني يازين مدرج على المماتي
 ماني مقضى ها لشهر خلّي محالي
من روح روحي لك اجدّم تعزياتي
 أوصيك بالسلوى وعلى الله الاتكالي
اغرس على قبري زهورٍ يانعاتي
 واقرا على روحي الفاتحة والتاتالي
ما همّني فقدان روحي والحياتي
 الإنسان له موته ترى على كل حالي
لا يمكن لنا أن نطلق على هذا المنحى التعبيري عند الشاعر معضد بن ديين الكعبي، بأنه منحى تشاؤمي بالمطلق، بقدر ما هو منحى تأملي في جدلية الموت والحياة، والفناء والبقاء، وأن اليأس يمكن له السيطرة أحياناً على هواجس الشاعر، ويجعله مسترسلاً في خوفه على العلائق الظاهرة بينه وبين المحبوب، وما يدفعه للبحث في العلائق الخفية المرتبطة بعالم الأرواح وتلاقي النفوس وذوبانها في بعضها، حتى بعد مغادرته للحياة، وغياب كل رابط فيزيائي بها، ولذلك فإننا في المقطع الاستهلالي للقصيدة نستشعر هذا التخفّف الواضح من الحس التشاؤمي، ومن غلَبة اليأس وطغيانه، حيث يقول:
يوم أفكر وأستعيد الذكرياتي
 يا الضّني ذكرى ليالينا الخوالي
ذكريات في فؤادي راسخاتِ
 كل ساعة ذكركم يخطر عا بالي
يا ريم شطّ النيل دجلة والفراتِ
 يا زهر يا عنّاب يا كرم العلالي
أذكر زمان مرّ واتقضّى وفاتِ
 ذكراه في قلبي واللي دايم عا بالي.
ففي هذا الاستهلال نرى متواليات الشغف والوجد والوله، وهي تتصدّر اهتمام الشاعر وتملي عليه إضاءتها والتركيز عليها، مستعيداً ذكريات الليالي الخوالي، وأوصاف المحبوب التي لا تغادر خياله، وكأنه يبحث عن بديل أو تعويض أو عزاء لوحشته وعزلته وتفكيره المنصّب على ما سيأتي بعد هذه السلوى وما يمكن أن تخلّفه الذكريات من ألم مضاعف عند الفقدان والانفصال والرحيل الأبدي.
وساهمت ملامسات شاعرنا المبكرة لعالم القصيد، في تغذية خياله، وإذكاء حدسه وامتلاكه لمخزون لغوي خصب، عزّز به منتوجه الشعري، وأهّله لمجاراة الشعراء الأكبر منه سنا وخبرة، فحاز السمعة الموازية لموهبته، وحصد النجاح الذي يليق بفرادته، وعلوّ كعبه في فضاء الشعر النبطي.
وكان في تنقلّه وأسفاره وبحثه الدائم عن منابع العلم والثقافة ما يشبه الغريزة المعرفية من أجل تجويد أدواته الشعرية وشحذها وضخها بالصور الخارجية والخبرات الذاتية والانطباعات المشهدية، شكلاً وموضوعاً، وظاهراً وباطناً، فبرع في أغراض الشعر المتنوعة مثل المشاكاة والغزل والمديح والسجال الشعري، وتوثيق الظواهر الاجتماعية ورصدها وتحليلها ونقدها أيضاً إذا احتوى بعضها على جوانب سلبية ومجافية، لسمو الأخلاق، وجمال المعاني المبثوثة في العادات والتقاليد الأصيلة.

أول قصيدة
كتب معضد الكعبي أولى قصائده وهو ما زال في الثانية عشر من عمره، وصدر له أول ديوان بعنوان «ضاع الوفا»، وهو ديوان قديم قامت لجنة الشعر الشعبي بدراسته وتحقيقه وضبط كلماته، وأضافت إليه من قصائد الشاعر من مصادر أخرى لكي يخرج الديوان في طبعة جديدة ومنقّحة، واشتمل الديوان على مجموعة قصائد تتنوع ما بين الوطنيات والمدح وقصائد الاجتماعيات وقصائد المشاكاة وقصائد الغزل بإجمالي (71 قصيدة).
سافر معضد الكعبي في بواكير شبابه إلى مدينة الشارقة لينضم إلى المدرسة القاسمية الابتدائية، وعندما أنهى دراسته الإعدادية ذهب إلى بريطانيا لإكمال تحصيله العلمي، غير أنه فضّل العودة إلى وطنه لينصرف إلى أعماله الخاصة، حيث تنقل وأقام في عدد من مدن الإمارات.
امتازت قصائد الكعبي الغزلية بالميل الواضح للّوم والشكوى والعتاب، واتسمت هذه القصائد رغم دقة الوصف فيها، بالنقد الشديد الذي يمكن أن يفضي إلى القطيعة وإنهاء العلاقة بالمحبوب، وربما كانت قسوته الغالبة على جلّ هذه القصائد هي قسوة مبررة ولها دوافعها النابعة من الغيرة أو من جرح عاطفي أصابه وجعله في حيرة من أمره، وأفضى به إلى ضبابية شوّشت رؤيته، بحيث انعكست هذه المشاعر المتضاربة على نوعية القصيد الغزلي الذي أنتجه، وهو ضالع في الريبة والشك والمخاوف والقلق، وهنا قصيدة تترجم معاناة الشاعر من هذا اللبس والتشويش في علاقته بالمحبوب، حيث يقول:
أهدي سلامي لكم بتعداد
وأظّنها آخر سلامات
ضاع الوفا والزين ما فاد
بدلت حسنايه بسيّات
ما كان ظني فيك يحّاد
أثرك يحّاد المروات
سلمت لك روحي ولفواد
وعابيتني يا زين عزّات
هيهات يرجع لي مضى عاد
لا اتصدق أنه يعود هيهات
وفي قصيدة أخرى تنحو هذا المنحى يقول الكعبي:
ليش جاسي ودايس انحاسي
ليش ما ترحم عباد الله
ليش طبعك فالهوى جاسي
اللي يرحم يرحمه الله

صيت وشهرة
كان تأثير والد شاعرنا معضد بن ديين الكعبي كبيراً عليه من ناحية اهتمامه بالشعر والشعراء الذين كانوا يرتادون مجلسه، وكان شاعرنا في صغره يستمع لهم، وينصت لمروياتهم ولنتاجاتهم الشعرية الشفهيّة، ما غرس في دواخله الافتتان والانجذاب لهذا الضرب من الفنون التعبيرية، فصار مهتماً بترديده وممارسته لاحقاً، حتى وصل لما كان يصبو إليه من صيت وشهرة في هذا المجال، وشهد القريب والبعيد بدقة المعاني التي ينثرها، وقوة المفردات التي يحيكها في ثنايا شعره، ليتردد اسمه في مجالس الشعراء وفي أذهان الناس وقلوبهم، نظراً لما تمتع به شعره من فورة وقوة، وما احتواه من مفردات أصيلة وضاربة في جذور الأرض، وفي التراث الملموس والآخر المعنوي الذي تناقله الرواة عبر الزمان، وعبر تحولات المكان وانعطاف الأحوال وتبدّلها.

بسمتك
من قصائد الشاعر الراحل معضد بن ديين الكعبي التي حظيت بشهرة كبيرة بعد أن لحنها وغناها الفنان ميحد حمد، قصيدة «بسمتك» التي تجسّدت في فيديو كليب، شارك في تنفيذه أدائياً، كل من الإعلامي حسين العامري، والمذيعة والفنانة رؤى الصبّان، وساهم انتشار الأغنية والفيديو في التعرف على جماليات الطبيعة ودفق الأخيلة التي اعتمدها واستند إليها الشاعر معضد الكعبي، واستقى منها أجمل قصائده وأكثرها عذوبة وتأثيرا وقبولاً لدى متابعي إرثه الشعري الغني والمكتنز بألوان الوصف وتجليّات المعنى.
حيث يقول الكعبي في القصيدة:
بسمتك يا زين تسوى ألف بسمه
 والعيون السود والرمش الطويل
مهرجان العيد في نظرة عيونك
 والشفاة الحمر نبع السلسبيل
يا جلال الحسن طرّزك الجمال
 بالعذوبة والملاحة يا جميل
يبهر الآرام مزيونك وحسنك
 والسحر لي فيك والطرف الكحيل
النسايم في السحر تحمل أريجك
 دهن عود وياسمين وريح هيل

المشاكاة والردود
من الأغراض الشعرية التي برع فيها الكعبي، شعر المشاكاة والردود وله قصيدة مشهورة في هذا السياق، شاركه فيها شاعر العين الكبير سالم الكاس، حيث يقول الكعبي:
ريم ربى ف أرض المباليس
متغريّف في طيب للباس
أزعج فؤادي قبل ما قيس
غض الصبا مدقوق للعاس
أشقر وحيّاته مناكيس
أزهى من الياقوت ع الراس
(إلى آخر القصيدة..)
وجاء الرد من الشاعر سالم الكاس على النحو التالي:
أصبحت في كيف ونواميس
ساعة وصول الخط يا ناس
رحّبت به بعمّ عن ابليس
محروز يا معضد ولا باس
والدار لك فيها مياليس
دارك ومربى كل ميّاس
(إلى آخر القصيدة..)
حيث نرى في هذه الثنائية الشعرية الموزعة بين القول والرد والتي أبدع فيها كل من الكعبي والكاس، أن التحدي بين الشاعرين جاء لصالح المتابعين والمتلقين لشعرهما، حيث يبلغان ذروة الوصف عند استجلاب مشاغل الذات وجمال الصحبة ورقة الحواسّ، وهي تبوح بمكنون النفس، وبعطايا الرفقة الجامعة بينهما، ضمن قصيد مشبع بالترحاب، والتواصل الوجداني، وعمق الأواصر، والتلذّذ بالشعر، باعتباره الجسر الواصل بين روحين فرقهما المكان، وباعد بينهما الظرف، وانقطاع الحال، ولكنها وجدا في الشعر معيناً ومنجداً ومعبراً تحفّه العلائق الحميمة والذاكرات المؤتلفة، واللحظات المستعادة بإشراقتها النائية والحاضرة في آن.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©