لم ينتبه كثيرون حول العالم أن اليوم العالمي للتسامح قد صادف الاثنين الماضي، مع أنه لا يستقيم أمر لولي أو تقي، أيا كانت اللافتة الدينية التي يرفعها، إلا إذا كان قلبه يسع العالم. فما في نفسه من ورع، وما في عقله من فهم، يجعله ينظر إلى كل أمر من عل مترفعاً عن صغائر تهلك غيره وتجعله حانقاً قانطاً، كأن الدنيا كلها محشورة في سم الخياط.
لم ينتقم نبي ولا ولي، فطوال مسيرة الناس لم يظلم أي منهما وإن حرص على أخذ حقوق مسلوبة بلا دم، ولم يطغ وإن جاء في طريقه من أساء إليه، وبعض ما قيل عن انتقام في هذا الدرب الطويل كان مرده إلى من كتب تاريخاً غير الذي جرى، فعند أي منهما يغلب التسامي أي غل، ويعلو الترفع على أي حنق، ويجعل النظر إلى البعيد ما تحت الأقدام عدماً.
المتسامحون يدركون أن ما بين الحلال والحرام من عفو أوسع من كليهما، ويعرفون أن المتنطعين فقط هم من يزيدون في الحرام، والمتفلتين هم من يوسعون الحلال، لكن بين هذا التوسيع وتلك الزيادة مساحات شاسعة ممن لا يحال إلى الحلِّ والتحريم، إنما تقيم أعمدته فوق أكتاف العفو، ويدرك أصحابه أن المسامحة أزيد كثيراً من المشاححة.
يرى المتسامح ما لا يراه غيره، دنيا عابرة، وصدور منشرحة، وحقائق عارية، وأفواه لا تفتر عليها الابتسامة، لأنها أدركت ما لا يبلغه أولئك الذين يتكالبون على كل شيء، الماء والكلأ والنار وما بعدها، وما فوقها، غير عابئين بشيء سوى الصيد والظفر، وكأنهم ضباع تنهش الفرائس المتهالكة، أو غربان تطارد الجيف المتعفنة، أو إعصار لا يرحم كل ما ومن يأتي في طريقه.
المتسامح ليس ضعيفاً، حتى وإن نعته الغافلون بهذا، بل هو قوي بما له من نفس قادرة على العذر والغفران، ترى الدنيا أصغر من حبة خردل، ومن فيها عابرون، يعشش في رؤوسهم غرور البقاء الجامح، مع أنهم لو أمعنوا النظر لأدركوا أن أعمارهم لا شيء في عمر الكون المديد، ولو مدوا أبصارهم إلى ما تحت أقدامهم لأيقنوا أنهم يدوسون تراباً بعض ذراته من عظام الذين سبقوهم دبيباً على الأرض، ولو أنصتوا إلى الحكايات التي سمعوها من الجدود والجدات لفهموا أن الحكمة الخالصة ينتهي إليها كل منا على أبواب قبره، وهنا يسألون أنفسهم:
ـ لماذا لا تظهر لنا في أيامنا الأولى؟
هل بوسع تراب أن يتعالى على أخيه؟ وكيف لعاقل ألا يدرك الحكمة السابغة التي أطلقها النبي محمد قبل أربعة عشر قرنا: «كلكم لآدم وآدم من تراب»، فمن هذا الذي عمد إلى تقسيمنا إلى أبيض وأسود، وأحمر وأصفر، ونعت كل جنس بصفات وسمات، وكل لون بخصال وتصرفات، إنه الجهل والعمى والغرور، وتوهم أن لهذا فضلاً على ذاك.
لا يتعصب إلا من ضاق أمامه الأفق، وأرخت السماء أجنحتها العملاقة، فانطبقت على الأرض، ثم انكمشت وضاقت، حتى صارت خيطاً يكاد لا يُرى في غبار الطريق. في الحقيقة، لا يضيق الأفق الذي يتهادى في فضاء رحب، إنما الرؤية التي تعشش في رؤوس خربة، وتخالف نواميس الكون، ولا يجد أصحابها من حجة سوى سؤال واحد: ما الحدود الفاصلة بين التسامح والتساهل؟
تأتي الإجابة حاملة كل تجارب الذين سبقونا إلى الإيمان في الأديان كافة، مدركين أن الله واحد والطرق إليه متعددة، إذ وقفوا على أول كل الأبواب المؤدية إلى كل ما هو في صالح حياة تليق بالإنسان الحقيقي، وقالوا: من لم يُغتصب له عرض ولا أرض أو يسرق له حول وطول، فهو في حل من الغيرة، فإن قدر، واسترد ما له، فعليه أن يصفح، ثم يبتغي كل درب لم يلوثه دم حتى يبلغ غايته، فليس أسوأ في الحياة من جسد مجروح مسفوح، ولا أسوأ من هذا الذي إن أعاد حقوقاً خلف وراءه مآسي وآلاماً وقرت في نفوس تتبعها نفوس، فتعطش اللاحقون للثأر، وانفتح باب الغابة واسعاً.