شهدت أسواق المال في مختلف بلدان العالم في الأشهر القليلة الماضية موجة ارتفاعات متتالية أوصلت بعضها، كمؤشر داو جونز الأميركي، إلى مستويات ما قبل جائحة «كوفيد-19»، كما طالت الارتفاعات بصورة متفاوتة معظم أسواق المال الأوروبية والآسيوية، إلا أن البورصات الخليجية شذت عن ذلك! مما وضع أمام المستثمرين تساؤلات عديدة عن هذا الاستثناء، سنحاول هنا الإجابة على البعض منها قدر الإمكان.
العامل الأول والأساسي والذي أشرنا إليه هنا مراراً يتعلق بالجوانب الهيكلية لأسواق المال الخليجية والتي تطغى على الشركات المدرجة فيها، شركات الخدمات، وبالأخص شركات العقارات والتأمين والبنوك، تلك المؤسسات شديدة الحساسية لأي تغيرات مفاجئة وسريعة، في حين أن هناك عددا محدودا جداً من الشركات الصناعية ومؤسسات الإنتاج والتقنيات الحديثة، وهو ما يشكل خللا كبيراً يتيح إلحاق ضرر كبير بقيم الأسواق الخليجية عند أية هزة أو تدهور اقتصادي، مثلما حدث إبان الأزمة المالية العالمية عام 2008 وجائحة كورونا حالياً، بدليل التماسك النسبي لبعض البورصات الخليجية التي تضم عدداً من الشركات الصناعية الكبيرة، كسابك السعودية وأدنوك الإماراتية والبا البحرينية، حيث تشكل الشركات الصناعية ثقلا مؤثراً ضمن الشركات المدرجة. فالقيمة السوقية لسابك وحدها تتجاوز 50% من إجمالي القيمة السوقية لمجموع الشركات المدرجة في البورصة القطرية، كما أن إدراج أرامكو عزز من هذا الثقل في الآونة الأخيرة.
العامل الآخر يكمن في المعاناة المزدوجة للشركات الخليجية وللاقتصادات الخليجية عموماً، فبالإضافة إلى تدهور الاقتصاد العالمي جراء تفشي فيروس كورونا، فقد رافق ذلك انهيار في أسعار النفط والتي استعادت مؤخراً بعض خسائرها، إلا أنها تبقى أقل بنسبة 30% من مستوياتها قبل الجائحة، وهو ما قلَّص كثيراً من مستويات السيولة المحلية، حيث تعاني أسواق المال الخليجية حالياً من شح نادر في حجم السيولة، إضافة إلى اضطرار بعض المستثمرين الأجانب لسحب جزء من استثماراتهم لتغطية عجوزات في مناطق أخرى. فالدول المتقدمة استطاعت دعم السيولة المحلية من خلال سياسة التسيير الكمي، تلك الأداة المهمة التي لا تتوفر في منطقة الخليج.
العامل الثالث يتعلق بأداء الشركات المدرجة نفسها والتي أعلن معظمها عن انخفاض أرباحها في الأشهر التسعة الأولى من العام الجاري أو تحقيقها لخسائر كبيرة والتي قللت من اهتمام المستثمرين، خصوصاً أن التوقعات والبيانات المتوفرة لدينا تشير إلى أن هذه الخسائر ستتعمق مع نهاية العام الجاري بسبب استمرار التباطؤ الاقتصادي وارتفاع أخذ البنوك للمزيد من المخصصات للديون المعدومة والمشكوك في تحصيلها.
تأتي هذه التطورات معاكسة للواقع المفترض، إذ أن تدني أسعار الفائدة إلى مستوى قريب من الصفر على العملات الخليجية من المفترض أن يؤدي إلى توجه جزء مهم من الاستثمارات والمدخرات إلى أسواق الأسهم، إلا أن ذلك لم يحدث، وهو أمر يزيد من عدم اليقين بشأن البورصات الخليجية في المستقبل المنظور.
لذلك تقف أسواق المال الخليجية أمام معادلة صعبة بانتظار عوامل محفزة، كإمكانية ارتفاع أسعار النفط إلى 60 دولاراً للبرميل لتعزيز السيولة المحلية وعودة الأنشطة الاقتصادية غير النفطية للدوران بنفس المستويات السابقة وتخطي البنوك لمشاكل المخصصات التي سترهقها لفترة ليست بقصيرة، إضافة إلى ضرورة إعادة تنظيم وتحفيز القطاع العقاري الحيوي للاقتصادات الخليجية. هذا على المدى القصير، أما على المدى الطويل، فمن المفيد تكرار الدعوة الخاصة بإعادة هيكلة البورصات الخليجية وجعلها أكثر تنوعاً واتزاناً لتجنب أو على الأقل الحد من خسائرها وسرعة تدهورها في المستقبل.
وحتى يتم استيعاب واحتواء تلك التطورات السلبية والتي ستستغرق بعض الوقت، وكذلك دراسة أوضاع هذه الأسواق من قبل الإدارات المسؤولة عنها والعمل على إعادة هيكلتها، فإن على المستثمرين والمتعاملين تحمل ما قد يترتب على الأوضاع الحالية، خصوصاً وأن فرص الاستثمار بمجملها أضحت محدودة في انتظار انقشاع ضباب كوفيد-19 والذي سيتيح دون شك فرصاً مجديةً ينبغي استغلالها لتعويض بعض الخسائر والعمل على تطوير الأعمال.

*مستشار وخبير اقتصادي